ذكريات انعدام أمان خالد

ذكريات انعدام أمان خالد

09 نوفمبر 2017
نيقولا ماجيروف (تصوير: أولشتاين بيلد)
+ الخط -

من السهل العيش في بيت من النسيان، حيث المشاهد الطبيعية لنظراتنا إلى الماضي، تظلّ على حالها وتبقى مقفرة. ويبدو إنشاء زمن تاريخي يتقدّم، ضاغطاً مثل قطار سريع في اتجاهٍ مجهول، شبيهاً بصورٍ وأمكنةٍ تشاهَد كلّها عبر النافذة الذاتية متحركة إلى الخلف، نحو ما تركناه وراءنا، وما لا نستعيده إلا عند الاختلاء بالنفس.

يمنح غابرييل غارسيا ماركيز أولويةً لذكريات القلب التي تمحو السيّئ وتحتفي بالطيب والجميل، لأننا بفضل هذا التضليل الواعي يمكننا تحمّل عبء الماضي. والخطورة في نظرة "أورفيوس" إلى الخلف في المكان والزمان، شأنها في ذلك شأن نظرة زوجة لوط، تتجسّد في خسارة دائمة لزمن قضياه معاً مع أحبابهما، وفي تخندقٍ عميق في آلية أبدية ساكنة بطريقة تماثل الطريقة التي تحوّلت بها زوجة لوط إلى عمود ملح بعد أن نظرت وراءها.

اليوم، الكثير من تماثيل الثورات المنسية تقف منتصبة وملوثة في المتنزهات وباحات المصانع، تذكرنا بعقيدة وذاكرة مشتركة لشيء كان في الحقيقة معلناً بوصفه نبوءة: شيوعية وإخوّة واتحاد. هذه القطع الحجرية المنحوتة، بناءً على معمار ما كان وعياً ألسنياً جديداً، كانت تسمى "أنصاباً" أو "صروحاً تذكارية" من التي لم تكن مهمّتها الاحتفاء بالذكرى، بل توسيع حدود ذاكرة مشتركة، بالاحتفال بمعاناة ونسيان وتضحية مثل أعلى.

بعد سقوط الشيوعية، رأيتُ لأول مرة أنصاب الألم هذه مغطاة بنقوش من حروف وصور حملت ذكريات شخصية لأول حب ضائع لأحدهم، أو حواراً عما إذا كان "نيتشه" و "الشرير" ميتين. ورأيت أن المارة وضعوا في الأيدي الثورية المبسوطة لهذه الأنصاب زجاجات كوكا- كولا فارغة، أو علب وجبات سريعة فارغة، علامة على حضورهم ونشاطهم في محاولة لنسيان ألم الذكريات الإلزامية.

إن ما يركّبُ جمالياتِ الذاكرة تناسجٌ مستمر بين الحضور والغياب إلى أن تمحى الحدود بينهما في فجوة الواقع الذهني. زوجة صديق لي توفي عن عمر يناهز الثلاثين عاماً، تحافظ باستماتة على التسجيل الوحيد لصوته في آلة تسجيل المكالمات الهاتفية، وهو يقول بهدوء "لسنا في البيت.. اترك رسالة". بعد خمسة أيام مرت على وفاته ولدت طفلاً، ولا زالت في كل يوم تقريباً تشغّل جهاز التسجيل وتُسمع ابنها البالغ من العمر الآن سبع سنوات، صوت والده وهو يقول "لسنا في البيت.."؛ صوت حضور يعلن غياباً، صوت ذكرى يعلن نسياناً.

في مقدونيا، لا يزال الناس يأخذون طعاماً إلى الموتى حين يزورون قبورهم كدليل على غريزة الأحياء المطلقة في الحفاظ على شعورهم بالامتياز والأمان. ويتجسّد طقس تمديد زمن الموتى الشخصي هذا مراراً، في أغلب الأحيان أيضاً، بانتقاء ذكرى لحظات من حياتهم قد لا يتذكرها حتى أولئك الذين لم يعودوا أحياءً. هذه هي حقيقة الكيفية التي ولدت فيها سرقة ذاكرة، وهي أمرٌ كان نهج خلود أساسيا بالنسبة للمستبدين في هذه الأنحاء. من شرنقة النبي المتنبي، المُعنّى بغدٍ أفضل، يتخلق ويخرج حاميا متألقا يقدم مجرد ذكريات عن أشياء لم تحدث أبداً.

إن خطر الواقع في بنية نظام مستبد أعظم بمراحل من خطر تذكره. الناس يستخدمون الألفاظ حين يصفون، وفي ذكرياتهم يمنحون حياة لكل أشواقهم ورغباتهم غير المحققة وأحلام يقظتهم. لمسة الحياة على وجه الخصوص، بحدودها الزمانية والمكانية، هي ما يتذكرون من كل شيء.

تصبح الذاكرة وطناً وحمى، بينما يتحوّل البيتُ إلى متحف معروضاتٍ عاطفية محفوظة. أبي يتذكر من أجل أن يحيا. يغني أغاني تعود إلى السنة التي ولدتُ فيها، ويطلق على الشوارع أسماء الأبطال المأخوذة من كتب التاريخ القديمة، ويطلب من سائقي سيارات الأجرة التوقف أمام بناياتٍ لم تعد قائمة. أبي لا يزال يتذكر قناة التلفاز الوطني الأولى بكونها الرقم 1 على جهاز التحكم عن بعد.

يقول غاستون باشلار إننا لكي نحلل وجودنا ونردّه إلى عنصره في سلسلة الوجود، فمن الضروري أن نصفّي الطابع الاجتماعي لذكرياتنا الأكبر، ونصل إلى مستوى أحلام اليقظة التي جربناها في عوالم عزلتنا. وأبي بعودته إلى زيارة ذكريات مشتركة مختلقة، ربما يبحث عن طريقة خاصة به لينسج سور أمانه الاجتماعي والعاطفي لأن ذكرياته تبدو لي أحياناً أطول عمراً من الموت.

أنا سليل لاجئين من حروب البلقان منذ بداية القرن الأخير، وتعلّمتُ من قصص أسلافي أن الوطن ذكرى غير متوارثة. بعد كل حرب هناك الكثير من البيوت المهجورة، بل وحتى أوطانٌ مهجورة. حين زرت البوسنة أخيراً، وجدتُ الناس يقسّمون الزمن بناءً على ثابت وطني مشترك: قبل الحرب وبعدها. لا وجود للأمراض والطفولة والشباب. كانت الحرب هي الأمر الذي لا يمكن نسيانه، بينما جميع الأمور الأخرى كانت مجرّد عشاق جيدين أو رديئين للحرب.

يقول دريدا إن الأشياء التي لا يمكن نسيانها هي وحدها التي تُغتفر، أو أن تغفر لا يعني أن تنسى. بلدان البلقان تنتظر مرور أجيالٍ وعقود كي تنسى كل الخوف والارتجاف الذي محا قداسة كل الأيام؛ في هذه السنوات والحيوات الماضية. ربما من الأفضل أن نغفر، لا أن ننسى.

لقد تم الاستثمار في التاريخ زمناً طويلاً، في الشكل المهيمن للذاكرة الجماعية، إلى أن تحوّل إلى حقيقة مشتركة لم تعد تبحث عن ذكريات جديدة أو شكوك، لأن كلّ مطلق خُلق لكي يتم تبجيله حصرياً وليس لكي يتم تذكره. وترسخت صورة مفادها أننا في البلقان لا مستقبل لنا من دون ذكريات. ولكن مستقبلاً مثل هذا سرعان ما يصبح مشكلة تاريخية حتى قبل أن يصبح حاضراً. هنا لا يمتلك القديسون والمستبدون ذكرياتهم الخاصة، وعوضاً عن هذا يستوطنون عقولنا وقلوبنا لزمن طويل، بوصفهم ذكريات انعدام أمان خالد.

* Nikola Madžirov شاعر مقدوني من مواليد عام 1973 في شرق مقدونيا، لعائلة لاجئة بسبب حرب البلقان. ينحدر اسم عائلته من الكلمة العربية مهاجر التي سرعان ما أصبحت "ماجير-وف" مع إلحاق اللازمة السلافية للأسماء. يتناول شعره الجغرافيا الشخصية والثقافية للفقدان، ويقول في واحدة من قصائده: "التاريخ هو أول الحدود التي عليّ أن أعبرها". حظي شعره باهتمام عالمي وترجم إلى قرابة ثلاثين لغة.

** ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون