ديودونيه.. عن اختبار كسر الإرادة

ديودونيه.. عن اختبار كسر الإرادة

19 يوليو 2017
ديودونيه في عرض سنة 2014، تصوير: كريستيان ليوينغ
+ الخط -

سجالات عديدة عاشتها تونس خلال الأيام الماضية، بسبب برمجة الممثل الفرنسي (من أصول يهودية تونسية) ميشال بوجناح، في "مهرجان قرطاج" (سهرة هذا اليوم). تصريحات الأخير الموالية لـ "إسرائيل" في أكثر من مناسبة، جعلت فئات واسعة في تونس تستهجن هذا القرار وتطالب بإلغاء العرض.

"فرضُ" بوجناح ربطه البعض بحادثة الشهر الماضي، حين لم يجر التصريح لعرض المسرحي الكاميروني الفرنسي ديودونيه مبالا مبالا. تقاطع الحادثتين في تونس يبرز مفارقة حادة، إذ يجري التضييق على ديودونيه المعروف بمواقفه المضادة للصهيونية، مقابل فتح أكبر مسارح تونس لبوجناح المناصر لها.

في مسرحه الباريسي؛ "تياتر دولاماندور"، التقت "العربي الجديد" بـ ديودونيه الذي لفتته هذه المفارقة وحاول استقراء ما وراءها.

يقول "لا شك أن وراء قرار فرض اسم بوجناح ضغوطا سياسية. وذلك جزء من استعراض القوة (الثقافي) الذي يقوم به من حين إلى آخر اللوبي الصهيوني في فرنسا. أن يحدث ذلك في تونس، يعني أن ثمة شيئاً وراءه، ثمة رمزية يجري ضربها في تونس. هم يعلمون أن بوجناح بخطابه المسيّس والمنحاز للسياسات الإسرائيلية، غير مرغوب فيه لدى معظم التونسيين، وربما لذلك بالذات يريدون فرضه... لم يكن وضع اسمه في برنامج مهرجان قرطاج عفوياً بالمرة".

في علاقة مع عرضه الذي جرى إلغاؤه الشهر الماضي، يقول "أنا أعرف أن مصالح وزارة الخارجية الفرنسية تعمل على منعي في أي مكان، ويوجد وراء ذلك ضغط إسرائيلي بالتأكيد، وقد جرى منع عروض كثيرة لي في كندا وإنكلترا وبلجيكا وغيرها".

يضيف "لم يكونوا بمثل هذه القوة من قبل، ولكنهم في المقابل لم يكونوا بمثل انحسار الشعبية كما هم اليوم... من خلال تجربتي، أرى تصاعداً وتمدّداً للضغوط الصهيونية في العالم. يبدون في لحظات معينة قادرين على منع أي تظاهرة في العالم أو فرض أخرى.. لم يكونوا قادرين على ذلك في السابق، اليوم تونس مساحة جديدة للتقدّم فيها".

بالنسبة لـ ديودونيه ليس صدفة ما حدث أو مجرّد قرار لجنة وضعت برنامجاً. يقول "هؤلاء اختاروا تونس بعناية لعرض بوجناح، لم يختاروا الكاميرون مثلاً. ولكن ضمن استعراض القوة ربما يقرّرون أن يعرض بوجناح في قريتي الكاميرونية بالذات، ومع الدعاية اللازمة لذلك".

يضيف "بوجناح في تونس؛ هناك الكثير من الرمزية في عملية استعراض القوة التي تحدّثت عنها"، يقول بأسلوبه الساخر "تقولون لا نريد أن نشاهده؟ نعم، ولكنكم ستشاهدونه، هذا هو ملخص ما حصل بالنسبة لي".

يتابع "أعتقد أن فرض حضور بوجناح هي بداية مسار طويل... نوع من اختبار كسر الإرادة الشعبية... مَن وراء بوجناح في النهاية؟ إنه نفس اللوبي الذي يقف وراء البرامج التلفزية التسطيحية، وخلف السينما التافهة والإباحية.. خلف بوجناح توجد الرداءة الثقافية، أقول ذلك وأعتبره زميلاً ضمن نفس المشهد الذي أنتمي إليه (الفكاهة)، ولكن ليس لنا نفس الأصول ولا نفس المنطلقات".

هكذا تسير الأمور اليوم بالنسبة لـ ديودونيه؛ "مجموعة ضئيلة تستطيع فرض ذوقها على الجميع؛ إنه ضرب من البلطجة في الثقافة. بوجناح في كلمة ليس له أية شرعية شعبية أو فنية كي يصعد على خشبة تونسية، والجمهور الذي سوف يحضر سوف يضحك عبر قوة الدعاية، بل إن بعضهم سيضحك انسجاماً مع ضحك جزء من الجمهور؛ لعلّهم مدعوّون وليسوا قاطعي تذاكر".

يرى المسرحي الكاميروني أن هذه الممارسات لها هدف بعيد وهو "خنق صوت التضامن بين الشعوب، القضية الفلسطينية لها رمزية في هذا السياق، خصوصاً في أفريقيا والبلاد العربية. هناك أيضاً اشتغال كي لا يمر الصوت التحرّري في الحقل الثقافي الذي يعملون على غزوه وضخ أفكارهم فيه".

ثمة جدلٌ فرعيٌ حدث في تونس، حول وسائل الاحتجاج الممكنة ضد عرض بوجناح، يقول عنها ديودونيه "آسفني أن تبقى الاحتجاجات حبيسة الفضاء التونسي... كان ينبغي - عبر الإنترنت مثلاً - إطلاق حملة عالمية من تونس لتمتد بعيداً. لو حصل ذلك فإنه قد يكون مثل فك حصار على بلدان أخرى منها فرنسا، التي تخشى فيها وسائل الإعلام الخوض في مسائل كهذه؛ تخشى القول بأنه من غير المعقول فرض عرض بوجناح في تونس، كما تخشى أن تقول إنه من غير المعقول أن تمتد الضغوط الفرنسية لمنع عرض ديودونيه".

من جهة أخرى، يعتبر أن جزءاً من الاحتجاج ينبغي أن يعمل على كشف فراغ الوجوه التي يريدون تمريرها، يقول "بقليل من الحسّ النقدي، سنكتشف أنه لا يوجد لدى هؤلاء الكثير من الذكاء أو الفن، في النهاية لن نجد سوى نفس آلة الحرب والدعاية يجري تشغيلها في كل مرة".

عن وضعه في فرنسا اليوم، يقول المسرحي الكاميروني "ما زلت أحمل الجنسية الفرنسية وهذا يمكّنني من بعض الحماية، ولكني أظل في النهاية بالنسبة لهم أفريقياً. فرنسا ليست بلد ديودونيه، إنها بلد سيمون فايل" (ناشطة سياسية وثقافية فرنسية من أصل يهودي، رحلت مؤخراً وجرى دفنها في البانتيون بقرار رئاسي).

ضمن نفس السياق، يقول "مسالك التاريخ المتشعبة جعلت مني مولوداً في فرنسا لا يعرف موطنه الأصلي، فكنت فرنسياً. ولكن في النهاية ها نحن نكتشف أن فرنسا ليست بلدنا... لسنا في بيتنا هنا... إنه بلد سيمون فايل وربما ميشال بوجناح".

يرى ديودونيه أيضاً أن في فرنسا اليوم تضييقا تدريجيا على الحريات، وهو "تضييق يشعر به الفرنسي من أصول أفريقية أو عربية قبل غيره، ولكن بدأ يشعر به أيضاً الفرنسي الأصل. من أجل ذلك أعتقد أنه جاء الوقت كي أعود إلى وطني الأصلي، الكاميرون، كما أنني أنوي الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة".

يعود قرار العودة ربما إلى سبب آخر، وهو أن حكماً قضائياً صدر بإخلاء القاعة التي أسّس فيها ديودونيه مسرحه الخاص منذ 18 عاماً. يقول "عموماً، أشعر أنني قمت بدوري في فرنسا، وهي مسيرة كشفت أن شعار الجمهورية الفرنسية "حرية، مساواة، أخوية" ليس سوى سكيتش مسرحي".

يختم بالقول "الذهاب إلى الكاميرون بالإضافة إلى كونه بات ضرورة، هو أيضاً التجاء إلى الغابة الأفريقية حيث لا تزال بعيدة عن الضغوط الصهيونية، التي لا تصلها خطوط الهاتف المفتوحة على تعليمات وزير الخارجية الفرنسي ومَن وراءه".

المساهمون