دليل الحيران إلى ذم موائد الرحمن!

دليل الحيران إلى ذم موائد الرحمن!

23 مايو 2019
+ الخط -
صُعقت المذيعة البلهاء عندما قلت لها على بلاطة إنني أكره موائد الرحمن. هي طلبت الإجابة صريحة وأنا كنت سأجيب بصراحة حتى لو لم يكن هناك بلاطة.

أنا فعلًا لا أحب موائد الرحمن. لا تتعجل الحكم عليَّ وتتهمني بقسوة القلب وانعدام الضمير وكراهية الخير لفقراء الناس. فأنا أكره موائد الرحمن لأني لا أطيق أبدًا وتحت أي ظروف وفي ظل أي محسنات بديعية حقيقة أن يكون هناك في بلد ـ هو في رأيي من أغنى بلاد العالم ـ فقراء يضطرون لانتظار شهر رمضان من السنة إلى السنة لكي يكون بمقدورهم شم رائحة اللحمة، وهم موقنون أن بعضًا منها سينزل لهم على طبق من رز ليأكلوا حتى الامتلاء، دون أن يكون ذهنهم مشغولًا ولو للحظة بدفع الحساب أو التفكير في الهروب من دفع الحساب بمعنى أصح.

سامحوني فأنا أجد من المخزي أن نفرح بأن لدينا مئات الآلاف من البشر لا يأكلون الفراخ كل يوم إلا لمدة شهر واحد في العام، وهم يعيشون في بلد الطيور الأول في القارة، قلت للمذيعة مستطردًا إنني أتحدث عن الفراخ بمعناها الحقيقي؛ صدر وورك وجناح، وليست الفراخ المبذولة لفقراء مصر من رقاب ورجلين ومناقير وما إلى ذلك من "فواكه الفرخة" التي لم يعد ينجو منها لدى فقرائنا إلا الريش، بعد أن فشلت حتى الآن كل محاولات توظيفه كنوع من الحلويات أو المحاشي، وطلبت منها أن تبادر بزيارة أي سوق للفقراء في أي منطقة عشوائية لترى كيف يتهافت الناس على شراء سقط متاع الفراخ فتفهم حقيقة سخطي.

كل هذا قلته للمذيعة التي بدأت عيناها تنهمران في بكاء، اضطرنا لوقف التسجيل حتى تتمالك نفسها، قلت لها وقد صعبت عليّ إنني آسف لأنني طسست وجهها بالحقيقة المرة، قالت لي بعد تنهيدة عميقة، إنها تبكي لأن هذه الحلقة لن تذاع بسبب ما أقوله، وسيكون واجبًا عليها أن تبحث عن ضيف جديد للتسجيل معه قبل الوقفة، نظرت إلى مُعِد البرنامج زميل دفعتي في الكلية شزرًا ثم نهضت غاضبًا وأنا أبرطم بالدعاء على تلك المذيعة، لكنه ابتلع غضبي بإفيه، واستغل ضحكي ليوجه لي جملة أكثر من شتيمة حارقة خارقة تذكرني بالذي مضى دون أن يفقد أصله ويذكرني به تفصيلًا، ربما لأن منظرنا كان سيكون سيئا، لو ذكرني صراحة أمام الناس أنني تعرفت على البفتيك والنجرسكو والجمبري الجامبو في بيتهم وعلى يد المرحومة والدته.


طعم أكل والدته الساحر تفجر في ريقي كأنه نبع ثجّاج، فرقّق قلبي عليه وعلى المذيعة البلهاء، لممت نفسي وعدت إلى التسجيل محاولًا تسنيد كبريائي على حيله بالدمدمة بعبارات من نوعية «لما انتو مش قد الكلام الجريء جبتوني ليه؟ ما اللي ممكن يقولوا كلام يبسطكو كتير.. عمومًا لو عايزين نقلبها هجايص وماله.. اتفضلي يا أستاذة اسألي السؤال تاني». أخذت نفسًا عميقًا لأهدأ تمامًا متشجعًا بفعل نظرات الامتنان المنبعثة من عينَي صديقي والتي عكرها دون قصد تأثير واضح منبعث من جملة «الله يرحم زمانك يا واطي» التي سمعتها تتردد في وجدانه بقوة الآن، أو إن جئت للحق منذ اتصل بي لحضور الحلقة وتحججت بضيق الوقت.

أعادت المذيعة سؤالي عن رأيي في مشهد موائد الرحمن المنتشرة في شوارع مصر، وأنا انطلقت في الإجابة كـ "توك توك" يطوي الفلا طيّا، قائلًا: «الحقيقة إن العين لتدمع والقلب ليحزن وإنا على فراق رمضان محزونون لأنه سيحرمنا من مشهد موائد الرحمن الفظيع، إنتِ عارفة سيادتك إني بانزل ساعة الفطار مخصوص وأسيب بيتنا وما به من أكل يسر الناظرين لكي أستلذ بالنظر إلى أيدي أبناء مصر المعطاءة وهي تتسابق على خطف أطباق الرز بالشعرية الذي تزينه حتة لحمة أو حتة ونص في أحسن الأحوال؟ يا سلام إيه العظمة دي، في بلد في الدنيا فيها الكم ده من الناس اللي ما عندهاش بيوت تفطر فيها، الله، ده شيء بجد يفرح، فعلًا مصر بخير طالما فيها كل الفقراء دول اللي بيزيدوا يوم عن يوم، أصل الفقراء ملح الأرض زي ما احنا عارفين، وأنا خايف على مصر عشان كده بقى ملحها زيادة وده ممكن يرفع لها الضغط لا سمح الله.. طبعًا احنا عارفين الفقراء موجودين في كل العالم زي ما احنا عارفين وده شيء ما يعيبناش، حتى البلاد الصناعية الكبرى فيها متشردين في الشوارع وفقراء مدقعين، لكن هناك لأن في صقيع يسود القلوب الحكومة بتديهم إعانة فقر، إنما حكومتنا بتديهم على قفاهم عشان ما يدمنوش المعونة، بس قلبها بيرق عليهم في رمضان فبتسيبهم يطحنوا بعض بالبواني واللُكميّات عشان يلحقوا معونات المحسنين.. وبتوفر للمحسنين الكرام قطع الأرض اللازمة لرص الكراسي والترابيزات والغرف في الأطباق والكوبايات.. دون أن تفرض على هؤلاء الفقراء رسوم ولا غرامات ولا ضرائب لأنهم على عكس المفترض في مجتمع لم يعد اشتراكيًّا بعد تعديل الدستور ولذلك يأكلون بدون أي مجهود».

حال المذيعة أثناء كلامي كان يصعب على الكافر، فقد كانت مضطرة للتفكير ألف مرة بين نزع الابتسامة البلهاء من على وجهها واستبدالها بتقطيبة عدم فهم، لكن زغرات زميلي المعد لها من وراء الكاميرا، وإشارته بإصبعه إشارة كادت تكون بذيئة بأن تنتقل إلى سؤال آخر، جعلها تنظر إلى الورقة مرتبكة ثم قالت لي: «عايزة أسألك ـ شالت كلمة حضرتك من ساعة ما أعدنا التسجيل.. عادي ـ مشهد موائد الرحمن الجميل اللي بيفكرنا بإن الدنيا لسه بخير مش ممكن يوحي لك كسيناريست بفكرة فيلم؟»، كدت للحظات أواصل نهجي التهجيصي حتى يعدي البرنامج على خير، لكن سؤالها الأبله كان وسبحان العاطي الوهاب، كمستصغر الشرر الذي يوقد معظم النار، إذ فجأة انتابتني موجة عارمة من الشجن، بعد أن أعادني سؤالها إلى يوم رمضاني لم يكن مباركًا بالنسبة لي مع أنه كان كذلك على العالم أجمع، فهمت صمتي خطأ فقالت لي: «مش لازم فكرة فيلم كامل يعني.. ممكن حتى فكرة مشهد درامي لو حبيت»، فجأة وجدتني أقول لها وأنا أغالب رغبة عارمة في البكاء: «الحقيقة أنا مضطر أصارحك بأنني مش هاقدر أبدًا أكتب مشهد زي ده لأني في الحقيقة على المستوى الشخصي باكره موائد الرحمن.. أنا عارف إنها شيء عظيم ورائع بيدل على قد إيه بلدنا في خير.. بس أنا باكرهها لسبب شخصي جدًّا.. أصلها مرتبطة بموقف حصل معايا سنة 92 يعني من ييجي خمستاشر ستاشر سنة»، كادت توقف التسجيل من ارتباكها لولا أن أشار إليها صديقي بإصبعيه السبابة والوسطى لكي تكمل التسجيل منتظرًا حكاية حرّاقة تملأ فراغ الكلام الذي قلته آنفًا والذي يعلم بخبرته أنه لن يذاع أبدًا.

«أياميها كنت ساكن في غرفة حقيرة في شقة أحقر في شارع ليس حقيرًا متفرع من شارع المحطة في الجيزة.. كنت طالبًا ـ في سنة تانية من كلية إعلام ـ يكره شهور السنة الدراسية كلها لكنه يخص شهر رمضان والعياذ بالله بكراهية عميقة لأن جلوسه وحيدًا فقيرًا غريبًا ساعة الإفطار كان يهشم قلبه تهشيمًا.. كان ساكن معايا شيف سندوتشات من الفيوم بس كان المحظوظ بيفطر في المطعم اللي بيشتغل فيه في وسط البلد وساعات يسافر لبلدهم القريبة من الجيزة.. أنا بقه ما كنتش أقدر أسافر إسكندرية غير يومين في الأسبوع.. وميزانية السفر كانت بتبهدل الدنيا فكان الأمر ينتهي بيا.. متنيل على عيني في الأودة الحقيرة في الشقة الأحقر.. مجبرًا بحكم قانون ألا يزيد ما أصرفه في اليوم على أربعة جنيهات على أن يكون مينيو الأكل متنوعًا ما بين الفول والبيض والطعمية والزبادي وشوية بطاطس ومخلل وبتنجان مع تغيير البيض يومين في الأسبوع بعلبتين تونة مفتتة لأن علبة التونة القطعة الواحدة أغلى.. تخيلي كانت الأربعة جنيهات تجيب كل ده ساعتها.. كنت باحاول أدلع نفسي بإضافة القوطة والبصل والخضرة إلى الفول عشان يبقى فول بالخلطة وإلى البيض عشان يبقى شكشوكة.. كان كل ده بيخلي الأكل محتمل ولذيذ خصوصًا مع برامج إذاعتي البرنامج العام والشرق الأوسط اللي كانت في اعتقادي هي اللي بتبلع الأكل وساعات بتحليه وبتعمل مع كوباية الشاي الكشري العظيمة تفاعل كيميائي يحدث نفس مفعول الخارج توًّا من مطعم أبو شقرة فرع مصطفى محمود.. هتقولي لي وإيه اللي يخليك تفطر لوحدك أساسًا.. بصراحة عمري ما كنت باقتنع بفكرة إني أروح موائد الرحمن عشان آكل أكل سخن.. إذا كنت بارفض عزومات أصحابي أساسًا عشان عندي عقدة فقر بتخليني أحس إن الكون كله حاسس بفقري وبإنه عايز يبقشش عليَّ أو يهين كرامتي اللي ما حيلتيش غيرها.. في اليوم اللي باحكي لك عنه أنبوبة البوتاجاز خلصت فجأة.. قعدت مذلول ساعتين فيما يفترض أنه بلكونة.. إن أي حد يعدي من بتوع الأنابيب اللي بيصحوني كل يوم برزعهم وخبطهم.. مافيش فايدة.. فجأة كبس عليَّ الفطار.. استحالة آكل الأكل ساقع كده.. بدأت أحاول منع نفسي من البكا.. فجأة خدت قرار ثوري إني النهارده مش هاكل لوحدي واضطر آكل أكل ساقع.. أنا النهارده هاكل أكل سخن على مائدة رحمن واللي يحصل يحصل.. العشر دقايق اللي كانت فاضلة كانت يا دوبك تكفي إني آخد الشوارع قزح لغاية ما أوصل جامع الجمعية الشرعية اللي في ميدان الجيزة.. لأني ياما سمعت من أصدقاء رفيق سكني الفيومي سمع خير عن أكل مائدة الرحمن الفاخرة التي تقيمها الجمعية.. زائد إن ميزتها بتتعمل جوه الجامع.. يعني لن أكون مضطرًّا لمكابدة مشاعر أحمد زكي في «أنا لا أكذب ولكني أتجمل» أو تمثُّل آلام سعاد حسني في «خلّي بالك من زوزو» لو مر أحد زملائي وشاهدني أجلس مع العامة والدهماء في مائدة رحمن.. ألا يكفي ما أكابده من تعليقات على مظهري الرث وملابسي المبهدلة غير المتناسقة ورائحتي التي تفوح أحيانًا بفعل انقطاع المياه المتكرر.. قبل أذان المغرب بدقائق وصلت إلى جامع الجمعية الشرعية الكبير دخلت.. اخترت موقعًا استراتيجيًّا قريبًا من الباب الذي علقت عليه لافتة بخط أنيق كتب عليها «مائدة الرحمن ترحب بضيوف الرحمن الكرام»، ياه يا ربي قد إيه هزتني فكرة إني النهارده من ضيوف الرحمن.. كل اللي كان جوايا من مشاعر تتأرجح بين الإهانة والحرج راح وحسيت بدفء فظيع وقعدت الدقائق الفاضلة لحد معاد انطلاق مدفع الإفطار أستغبي نفسي وأتهمها بأنها معقدة ومليانة كلاكيع.. وإنها حرمتني من خيرات الرحمن اللي أنعم بيها على ضيوفه.. الحقيقة روائح الأكل الخلابة الفتانة التي كانت مختلطة بزفر حقيقي من الذي افتقدته منذ سنوات.. خلتني أقسى على نفسي أكثر وأكثر لدرجة أنني بدأت أشتمها بصوت عالٍ.. لكني توقفت لما حسيت من نظرات بعض الإخوة المشايخ اللي جنبي إنهم ممكن يفتكروني ملبوس وساعتها ممكن يطرحوني أرضًا.. ويتف أحدهم في ودني ويصرخ فيها لغاية ما يفقع طبلة ودني «اخرج يا عدو الله».. سألت الله لنفسي الهداية وأن يجعلني أدرك حقًّا لا صدقًا أن الفقر ليس عيبًا خصوصًا لو كان من أجل تحقيق هدف وغاية.. فجأة اختفى كل ما بي من ذلة وانكسار وأصبحت أشعر كأني عفاف شعيب تقف بكل صلابة الدنيا في مواجهة يوسف شعبان في الشهد والدموع مسلسل الفقراء الأكثر تفضيلًا في تاريخ مصر.. أدركني أذان المغرب فحمدت الله أن قرب البعيد.. دار علينا غلمان غير مخلدين من أبناء الجمعية الشرعية بتمرات يقمن صلبنا وأكواب مية وتمر هندي من النوع الفاخر.. كنت حاسس إني باشرب من نهر من أنهار الجنة من شدة عطشي المادي والروحي في نفس الوقت.. كنت أظن أن الصلاة ستقام على الفور بعد انتهاء الأذان لكي يتمكن الجميع من المسارعة إلى الإفطار.. لكني اكتشفت أن الجميع قام لأداء صلاة سنة المغرب.. بيني وبينك كنت هفتان جدًّا.. فكرت إني أريح شوية وأطلب كوباية تمر هندي تانية.. لكن خبطة تلقيتها في رجلي من ِرجْل رَجُل ملتحي سبقني للقيام ألغت الفكرة.. قاومت بصلابة مقاتل من حزب الله تأثير قصف الروائح المنبعثة من مؤخرة المسجد وأنهيت ركعتي السُّنة وأنا أحاول ألا تزهق روحي الجائعة ثقتي في حرص أهل الجمعية على السنة المطهرة.. أعطاني أملًا أن صلاة المغرب هتخلص قوام قوام كما أوصى سيدنا النبي في حديثه: «إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف فإن منهم الضعيف والمريض وذا الحاجة»، لكني لم أكن أعلم أن إمام الجامع يومها لم يكن قد سمع على ما يبدو بهذا الحديث أو ربما قال له أحد إنه حديث ضعيف، ولذلك فقد صلى بنا صلاة مودع حتى كدنا نودع فعلًا من فرط الجوع، الحقيقة أنا صليت قبل كده وأنا باحاول أقاوم النوم، وصليت قبل كده وأنا باحاول أقاوم الاستماع إلى كاسيت بيذيع أغاني باحبها وأنا باصلي، وصليت قبل كده وأنا باغض البصر واحنا بنصلي في الشارع في اسكندرية، لكن كانت أول مرة أصلي وأنا باحاول أغض الشم، لدرجة أني كنت في الركعة الأولى باصلي وأنا باسد مناخيري عشان ما أشمش روائح الأكل، لولا أني رفعت أصابعي عن أنفي بعد زغدة من جاري الذي ربما تخيل أني غير معجب برائحة المسك التي «دهنن» بها إيدي قسرًا قبل الصلاة. لا أعتقد أبدًا إن ربنا قبل صلاتي في ذلك اليوم الكئيب لأني بجد كنت عايز أشق الصفوف وأنقض على الإمام وأنهال عليه ضربًا لأنه بجد فاهم الإسلام غلط.. الإسلام دين الرحمة ومش من الرحمة بتاتًا إنك تذل كذا مائة جائع من ضيوف الرحمن يقفون خلفك بعد أن أكلوا لحم بطونهم من شدة الجوع.. مش عايز أقول كل الأفكار اللي كانت في خيالي وقتها عشان ما حدش يفهمني غلط.. مع إن ربنا أرحم بي من عبيده وعارف بحالي وقتها.. المهم وبعد طول انتظار وبعد بلاد تشيلنا وبلاد تحطنا.. وصلنا أخيرًا إلى التشهد الذي أعتقد أن الإمام قرأه سبع مرات.. ده التفسير الوحيد للمدة الطويلة اللي استغرقها وهو بيقرأ.. لدرجة أن صباعي اتلوح من كتر التلويح بيه أثناء التشهد.. المهم وصلنا إلى لحظة الحقيقة وسلم الإمام.. لم يكد يكمل السلام عليكم التانية حتى كنت وأغلب من في المسجد قد وثبنا من أماكننا كنمور إفريقية جائعة تتدافع باتجاه باب مائدة مضيفنا الذي هو بالتأكيد أرحم بنا من هذا الإمام الجائر.. فجأة وجدت يدًا تمسك بي بغلظة لتعيدني إلى مكاني.. وهو أمر مش سهل لو أدركت أنني وقتها كنت أتخن من دلوقتي مرتين.. كانت تلك اليد تخص جاري الزاغد لي مرتين.. مرة برجله لكي أصلي السُّنة ومرة بيده لكي أرفع يدي من على مناخيري.. قال لي والشرر يطق من عينيه: «يا أخي اتق الله واختم صلاتك لكي لا تفقد الأجر». قلت له باستغراب: «مانا مصلي معاك تلات ركعات وخاتم الصلاة.. مش المغرب تلات ركعات»، تحول الشرر في عينيه إلى لهب وقال لي: «إنت هتهزر في بيت الله.. مش كفاية صباعك اللي عمال تلف بيه وخايلتنا طول التشهد.. يا أخي دي بدعة مستفزة مش عارف خدتوها منين»، كنت أستمع إليه وأنا أرى باب مائدة ضيوف الرحمن وقد سدته الكتل البشرية حتى أصبح لا يكاد يبين من الزحام، قبلت رأسه وقلت له: «أوعدك لو ربنا جمعنا وصلينا جنب بعض سوا.. لو شفت صباعي بيتحرك بعد كده في التشهد اكسره ولا تثريب عليك»، ثم اندفعت جاريًا لألتحم بالكتلة البشرية الزاحفة دون وعي نحو باب المائدة الذي لا يكفي لدخول ربع المتدافعين عليه بأي حال من الأحوال.. فجأة وبدون أي مقدمات طلع علينا من ثنيات المسجد وجَنَباته عشرة من الشُّحوطَة.. لولا ملابسهم الناصعة البياض لظننتهم عساكر أمن مركزي مخضرمين.. في يد كل منهم عصاية مكنسة لا تخطئ غلظتها العين.. وابتدوا ينهالوا ضربًا علينا نحن ضيوف الرحمن.. ربك والحق أنا للحظات تجمدت مش من الرعب والهلع.. لا من عدم الفهم.. سألت نفسي: هو أنا فين بالضبط؟ هل أنا في مائدة فيفي عبده اللي كانت سُمعتها وقتها إنها مائدة فيها سيكيوريتي؟ ولا أنا واقف على باب سينما يوم العيد وباتضرب بأحزمة العساكر؟ ولا أنا في مظاهرة بتهتف يا حرية فينك فينك أمن الدولة بيننا وبينك؟ فوقني على حقيقة أني في جامع.. في بيت من بيوت الله.. صوت الإمام في الميكروفون وهو بيهتف يا إخواني النظام لو سمحتم عشان كده مش هينفع.. اتقوا الله في أنفسكم.. كنت فاهم إن الضرب هيوقف بعد طلبه بتقوى الله، لكن اتضح أنه زاد شراسة لأنه طلع بيطلب التقوى من الجعانين اللي بيتضربوا.. مش من اللي بيضربوا.. بصيت في عينين اللي حواليا شفت تعاسة وبؤس واستسلام مرير خلوني أحس إني على كل ما أظن أنني فيه أعتبر محمد الفايد بعد خمس دقائق من تسجيله محلات هارودز باسمه في شهر لندن العقاري.. فجأة لقيتني باعيط عياط هستيري.. عياط عمري ما عيطته في حياتي لا قبل ولا بعد.. كرهت العلم والأحلام والطموح والمجد المتخيل.. لو كنت قعدت ثواني أكتر.. كنت كرهت نفسي كمان.. وأنا عمري ما كرهت نفسي.. ابتديت أزق بإيديا زي المجنون في كل حتة وأنا باصرخ صرخات هستيرية مش مفهومة يمكن لأني ما كنتش لاقي كلام يتقال.. ضربة عصاية نزلت على كوعي شعللت ناري أكتر وطلعت من جوايا طاقة مجنونة خلتني أطيح في كل اللي حواليا.. وأنا شايف قدامي باب الجامع من بعيد وباحلم إني أوصل له بسرعة وأخرج من بيت الرحمن اللي استولى عليه البشر بغلظتهم وقسوتهم.. كل اللي كنت عايزه يحصل وقتها إني أرجع عيل صغير بيتزاحم مع إخواته على الطبلية وأمي بتوزع علينا حتت اللحمة المعدودة سلفًا.. وبتشخط فينا إن كل واحد ياكل منابه وبس.. لولا الملامة كنت وقفت في ميدان الجيزة اللي كان ساعتها فاضي قوي وموحش قوي زي قلبي، وصرخت بجنون: «أنا عايز أروح لأمي.. روحوني لأمي أبوس إيديكو».. ساعتها حسيت أن كل الحاجات اللي كنت فاكر نفسي متأكد منها ساعتها شكيت فيها.. ساعتها بس فهمت ليه سيدنا علي كان بيقول لو كان الفقر رجلًا لقتلته.. أنا بيني وبينك كنت عملت فيه حاجة ألعن من القتل.. مش هينفع أقولها.. يمكن الشيء الوحيد اللي خرجني من حزني وسكت بكايا هو صوت ترزيع بتاع أنابيب على أنبوبته جنب البيت الذي وصلت إليه بعد ساعتين من المشي هائمًا على وجهي مع أنه زي ما قلت لا يبعد أكتر من عشر دقائق عن ميدان الجيزة.. هو صوت ترزيع بتاع أنابيب.. كان بالنسبة لي صوت الأمل يعيد إليَّ من جديد إحساس أنني يمكن أن أعيش شبعانًا ومحتفظًا بكرامتي في نفس الوقت.. ومن يومها وأنا أكره موائد الرحمن كراهية العمى.. تفتكري ممكن الرقابة تعدي المشهد ده؟».

فجأة أخذت بالي أن المذيعة منهمرة في بكاء كاد يتحول إلى نشيج حاد، وأن التسجيل توقف على ما يبدو منذ فترة دون أن آخذ بالي، لأن صديقي المعد كان داخل الكادر يحاول تهدئة المذيعة، لم أفهم ما الذي حدث، هل كانت حكايتي ثقيلة الوطأة عليهم إلى هذا الحد؟ كنت على وشك أن أبدأ في الحلفان لصديقي أنني لم أكن أقصد أن أنكد على أحد وأن تداعي الحديث هو الذي جعلني ذاهلًا عن نفسي وعما حولي، لكنني فوجئت به يقول لي مبتسمًا ابتسامة ظفر لم أفهمها أبدًا وهو يقول: «حلو قوي يا قمر بس هنضطر نعيد تاني عشان نحذف حتة في النص عشان الحكاية الفظيعة دي تتذاع... إنت إزاي عمرك ما حكيتها لنا يا أخي؟ إوعى تكون مألفها على الهوا؟»، فجأة علا صوت المذيعة وهي تقول باكية: «مش معقول يعني كل ده هيتعاد.. هاستحمل الكلام ده كله من تاني.. ما كنتو توقفونا من بدري»، زاغت نظراتي حائرة بين المذيعة والمعد الذي محوته للتو من قائمة أصدقائي وإلى الأبد، ظننت أن ذكر اسم الجمعية الشرعية هو الذي يمكن أن يثير المتاعب للبرنامج، فقلت بحماس: «ذيعوا الكلام ده على مسئوليتي وأنا مستعد إني أحلف ميت يمين إن كل اللي باحكيه ده حصل.. وبعدين مش معنى إنه حصل في جامع تابع ليهم إنهم كلهم يبقوا وحشين.. إحنا ممكن نزود الجملة دي عشان ما نظلمش الكل معانا»، فوجئت بصديقي يبتسم ابتسامة من لقي التايهة قائلًا: «حلو قوي.. الله ينور عليك.. لحقتنا.. ولو إننا كنا عايزين نعيد لسبب تاني... عايزين نشيل الجملة اللي اتكلمت فيها عن مطعم أبو شقرة.. عشان ده يعتبر إعلان».

....

ـ فصل بعنوان (لماذا أكره موائد الرحمن؟) نُشِر في كتابي (السكان الأصليين لمصر) الذي صدرت طبعته الجديدة مؤخراً عن دار المشرق ـ
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.