دعني أعطيك لمحة عن المستقبل
حين وصلت إليّ الوقائع العبثية التي سأرويها لك اليوم، كنت قد انتهيت من قراءة تحليلات لوذعية، كتبها بعض المثقفين المسكونين بأوهام الدولة القوية المهيبة، والذين لا زالوا مصممين على الإقامة في خرابة الجناح الديمقراطي، بعد أن هجرها أغلب سكانها، والعجيب أن هؤلاء الذين كانوا يصوّرون، لمن حولهم أن سياسة فرض الأمر الواقع بالحديد والنار، تصلح لتحقيق الأمن والاستقرار، يرون الآن، وبالحماس الفاجر نفسه، أن الخراب الذي أحدثته تلك السياسة في أرجاء البلاد، يمكن أن تصلحه بعض الحركات القرعة المدهونة بزبدة المداخلات الهاتفية، والتي ينبري للترحيب بها بعض كبار "الكُذّاب" الذين يحاولون في كل مرة مساعدة عبد الفتاح السيسي على الإفلات من مسؤوليته عن جرائمه التي أصبحت مترجمةً إلى كشوفٍ، تضم أسماء آلاف الضحايا، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، في حين كانوا، من قبل، يلهجون بذكر أهمية المسؤولية السياسية لرئيس الدولة، والتي كانت، في رأيهم، تجعل حسني مبارك وحسين طنطاوي ومحمد مرسي شركاء فاعلين في كل مظلمة تقع على أي مواطن مصري.
وعلى الرغم من أن السيسي لا يكف في كل يوم، عن فضح هؤلاء وتخييب آمالهم، بإمعانه في منح ضباط أجهزته الأمنية الضوء الأخضر لارتكاب ما يحلو لهم من جرائم، من دون رقيب ولا حسيب، بل ويحاول مساعدة رجاله بكل طاقته وصلاحياته، إن هم لبّخوا الدنيا، بسبب كفاءتهم المنعدمة حتى في القمع، إلا أن "كُذّابه" شيباً وشباباً، يواصلون تبشير الشعب بأوهام المستقبل المشرق الذي سيفتح السيسي أبوابه، لو قرّر أن يطلق سراح المعتقلين من "شباب الثورة"، أو قام بالضحك على ذقون من لا زال منهم خارج السجون، مع أن أي تفكير منطقي، في المستقبل، يدرك أن السيسي لن يكون أبداً جزءاً من أي حل حقيقي، لأنه تجاوز منذ مذبحة رابعة خط الرجعة، وأصبح، مع مرور الوقت، عبئاً على مؤيديه، حتى وإن كان بعضهم يرفض الاعتراف بذلك. ولذلك، لن يتورط السيسي في تحقيق أي انفراجة سياسية أو إعلامية حقيقية، لأنه يعرف أن تداعياتها لن تكون في صالحه أبداً. ولذلك، سيظل كل من يعلقون الآمال عليه، يضيعون وقتهم وجهدهم في ما لا طائل منه، وفي الوقت نفسه، سيتواصل تشكّل صورة كئيبة ومعقدة للمستقبل، على أيدي ضحايا السيسي الذين تغص بهم المقابر والمعتقلات والبيوت، لعلك ستجد في الوقائع التالية التي حملتها لي رسالة قادمة من إحدى قرى الدلتا، بعض ملامحها.
...
في نهاية 2013، داهمت قوات الشرطة إحدى قرى الدلتا، للقبض على عدد من أبناء القرية
المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وكان من بين المعتقلين شقيقان، أكبرهما مدرّس يعرف عنه الأهالي انتماءه المعلن للإخوان. لذلك، لم يستغرب الأهالي اعتقاله، في حين استغربوا اعتقال أخيه الأصغر الموظف في مجلس المدينة، والذي كان حريصا على أن يعلن أمام الجميع بأنه "فلول ويفتخر"، لعل ذلك ينجيه من القمع المحتوم، حتى أنه كان يدخل في مواجهاتٍ علنيةٍ أمام أهل القرية مع شقيقيه المنتميين للجماعة. ولذلك، لم يفهم أحد سبب اعتقاله في حملة المداهمة، ليتضح أن الأمر كانت وراءه زلة لسان من ضابط الأمن الوطني الذي أملى على قائد الحملة أسماء أعضاء "الإخوان" المطلوب اعتقالهم في القرية، فذكر اسم الأخ الأكبر في البداية، ثم أملى اسم الأخ الأوسط الذي لا علاقة له بالإخوان، وترك الأخ الأصغر المنتمي للإخوان أيضا طليقاً وسط دهشة الجميع، وحين تم اكتشاف الغلطة، تم تصحيحها طبعا، باعتقال الأخ الأصغر، والإبقاء على الأخ الأوسط في السجن خمسة أشهر، لأن هيبة الدولة تقتضي الفجور في الخطأ، حتى يخاف السايب من غشوميتها وموات قلبها.
كانت تلك الغلطة قدم سعد على الشقيقين المنتميين للجماعة، لأنها ساعدت في تشريك القضية قانونياً، وأوجبت الحكم بخروجهما من السجن، ربما لأن حظهما ساقهما إلى قاضٍ لا يحب تلقي أحكامه مسبقا من ضباط الأمن الوطني، ليقوم أشاوس الداخلية بتصحيح الخطأ هذه المرة، بشكل لا يمكِّن أي قاضٍ مدني من التدخل، حيث تم اعتقال الأخ الذي أفلت في المرة الأولى، ليتم ضمه إلى قضية فيها بعض العائدين من القتال في سورية، وتحويله إلى محاكمة عسكرية، حيث لا تنفع ثغرات قانونية، ولا شطارة محامين، ولا هم يحزنون، وربما كان التغيير الوحيد الذي حدث في حياة تلك الأسرة المنكوبة أن الأخ الذي لم يكن منتمياً إلى جماعة الإخوان، أصبح الآن منتمياً إليها، بعد أن قرّبته فترة الاعتقال من أشقائه جسداً وفكراً.
في القرية نفسها، وفي شهر مارس/ آذار من العام الماضي، وصلت معلومة إلى أحد أعضاء جماعة الإخوان الشباب، من قريب له يمتلك علاقات أمنية، بأن هناك حملة مداهمات قادمة لاعتقاله، فهرب من القرية، قبل وصول قوات الأمن إليها، ليتضح، بعد ذلك، أن أوراق القضية التي تم اتهامه فيها لا تحوي أصلا اسمه، بل تحوي اسماً مشابهاً لشخص آخر من أبناء القرية، حيث يختلف الاثنان فقط في اسم الجد الثالث، على الرغم من أن الفرق بينهما في السن يصل إلى 25 سنة، وحين نبّه المخبرون من أهل القرية ضباط الحملة إلى وجود الخطأ الذي تم اكتشافه مصادفة، حين سأل أفراد الحملة: "فين مراته وعياله؟"، لأن أوراق الاعتقال التي يحملونها تفيد بأن المتهم عمره 47 سنة ولديه زوجة وأطفال، وبالتالي، يمكن استثمارهم في الضغط عليه لكي يسلّم نفسه، لكن أهالي القرية أقسموا لهم أن الشاب الإخواني المطلوب لم يتزوج بعد، وأنه تخرّج قبل عامين من الجامعة، وعمره 23 سنة فقط، ليغادر الضباط القرية وهم مرتبكون، واعدين بالتحقق من الأمر، لإصلاح اللبس الذي وقع في الأوراق.
قبل أسابيع فقط، أثبتت الشرطة المصرية العظيمة، حامية حمى الديار، أنها لا يمكن أن تخطئ
أبداً. ولذلك، وصلت إلى منزل الشخص الذي يشترك في الاسم مع الإخواني الهارب، ورقة تستدعيه إلى محاكمة عسكرية في الإسكندرية، وتحدد له يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2016 موعداً لحضور جلسة استئناف محاكمته، من دون أن يبلّغ بالحكم الذي صدر في الأصل، أصيب الرجل الذي يعمل في الحكومة بالذعر، وقرّر بعد استشارة الأهل والأحباب أن يذهب بنفسه إلى المحكمة لإصلاح الخطأ، لأن قضاء خير أجناد الأرض لا يمكن أن يسمح بمحاكمته ظلماً، لمجرد تشابه أسماء. وفي المحكمة وجد المواطن حسن النية أن القضاء العسكري عادل للغاية في توزيع العقوبات على المواطنين، شريطة ألا يكون لديهم ضهر أو سند، حيث اكتشف أن عليه حكماً غيابياً بالسجن 25 سنة من المحكمة العسكرية، ليتم اعتقاله من داخل المحكمة، وحبسه في قسم الرمل، ويتم تمديد حبسه أسبوعا بتاريخ 30 يناير، من دون أن تجدي كل أيماناته المغلّظة في إقناع السادة القضاة والضباط أن كل ما يربطه بالقضية هو تشابه اسمه مع اسم العضو الإخواني، الذي اتضح أنه نجح في الهروب بحياته خارج مصر، بعد أن دفع ما فيه النصيب لأشاوس آخرين، من عيون الوطن الساهرة على الحدود.
سيسهل عليك طبعاً أن تصب لعناتك على الشاب الذي هرب، لأنه لم يقبل بعدالة الحكم المؤبد، وفضّل عليه الهروب خارج البلاد، لكنك ستحتاج إلى أن تجرّب أولاً الخضوع للمحاكمة العسكرية، لكي تكون لديك فكرة عن العدالة العسكرية الناجزة التي تتفوّق على عدالة محمد ناجي شحاتة، في أنك لا تملك أملاً في الإفلات من عدالتها في مرحلة النقض، ثم دعني أضيف إلى معلوماتك عن العدالة أن حملة المداهمة التي جاءت للقبض على الشاب ضربت شقيقاته، حين اكتشف الضباط والجنود عدم وجوده في البيت، وأن الشاب نفسه يعاني من مشكلات صحية كبيرة في العظام والأعصاب، بدأت لديه في سن الثانية عشرة، وأنه على الرغم من عدم ثبوت تورطه في أعمال عنف، كان قد تعرّض للضرب المبرح على أيدي مواطنين شرفاء خلال اشتراكه في مظاهرة مؤيدة لمحمد مرسي، ليخرج من المظاهرة مصاباً بكسور في كل أطرافه وعدة طعنات بالسنج، أنجاه منها حسن حظه، كما أنجاه من الاعتقال في ما بعد قريبه الذي حذره من حملة المداهمة، ليعيش فترة هارباً داخل مصر، قبل أن يهرب إلى دولةٍ عربية، ويبدأ بالتواصل منها مع عدد من أصدقائه، طالباً منهم إبلاغ أسفه ودعواته لأهل سَميِّه الموجود في السجن، وأمله في أن يتفهموا استحالة أن يعود إلى مصر، في حين يتهمه الآن أهل السميّ المسجون بأنه دفع رشوة لكي يتم تغيير الاسم المسجل في أوراق القضية، وهو ما نفاه أهل الهارب بشدة، محاولين تذكير أهل المسجون بما يجري من تنكيلٍ لأي متهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان، وهو ما يجعل حدوث ما يتصورونه من تلاعبٍ في أوراق القضية أمراً مستحيلا.
....
لا أظن أنك ستسألني لماذا أخفيت أسماء ضحايا الواقعتين، إلا إذا كنت من الذين لا زالوا يصممون على مغالطة أنفسهم بالادعاء أن لدينا عدالة، يمكن أن يحتمي الناس في ظلها، فلو كنت من هؤلاء، لا أظن أن نشر أسمائهم (على عكس رغبة بعض أقاربهم الراغبين في إيصال مظلمتهم للناس من دون أن يتعرّضوا للتنكيل هم أيضا) سيغيّر في موقفك من قريب أو من بعيد، لذلك، سأعيذك من أن تكون من الذين ضرب الله على عقولهم غشاوة دائمة، وسأفترض فيك، أياً كان اتجاهك السياسي، عقلاً يقظا يدفعك إلى التفكير في خطورة تفاصيل الواقعتين، وهي، بالمناسبة، أقل خطورة من وقائع أخرى (بفتح الألف أو ضمها ما فرقتش)، تم فيها تصفية مواطنين مصريين في ملابساتٍ لم يجرؤ أحد على طلب التحقيق فيها، على اعتبار أن ذلك القتل سيرد حق شهداء الجيش والشرطة الذين لا يطالب أحد بمحاسبة قادتهم الذين يتسببون بقيادتهم عديمة الكفاءة في تقديمهم قرابين للإرهاب الذي لم يعد المتباكون على دماء الجيش والشرطة يسألون عن أسباب استفحاله، وسر فشل السيسي وقادته في محاصرته، كما كانوا يفعلون ذلك بكل حمية وغضب في أيام المخلوع والمعزول.
في اعتقادي، أن ما ينبغي عليك مواجهته، ولو بينك وبين نفسك، أسئلة أكثر أهمية وخطورة تتعلق بمستقبلك ومستقبل أولادك، مثل: كم مظلمة كهذه شهدتها مصر، أخيراً، في ظل غياب أي محاسبة لضباط الأمن، وهم يعيثون في الأرض تنكيلا وقمعا؟ كم مرة ضبطت نفسك وأنت تمر بشكل عادي على أسماء المقتولين أو المعتقلين، في قرية هنا أو مدينة هناك، لمجرد أن الخبر نقل عن "مصدر أمني" أنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان؟ هل فكّرت في أطفال هؤلاء وزوجاتهم وأمهاتهم وأقاربهم، والذين لا يمتلكون حتى رفاهية إعلان الشكوى من الظلم، لكي لا يتعرّضوا له بدورهم؟ كم مرة خشيت من إعلان رفضك ما يجري من انتهاكات لحقوق الإنسان، وقتل خارج إطار القانون؟ وإذا كنت قد برّرت أو أيّدت أو صمتّ على كل ما جرى من قمع خارج إطار القانون للمنتمين إلى جماعة الإخوان، أو غيرهم ممّن يتهمون بالتعاطف مع الجماعة، حتى ولو لم يكونوا كذلك، فهل أدى ذلك إلى تقدم مصر شبراً إلى الأمام طوال العامين الماضيين؟ وإذا كنت لا تهتم إلا بأن يكون البلد مستقراً وآمناً بأي ثمن لتمشي مصالحك وتتقدم حياتك، فهل تعتقد حقاً أن كل من تعرضوا لكل ذلك الظلم، سيخرجون من سجونهم شعراء وروائيين يقومون بإثراء أدب السجون، أو سياسيين ملهمين يستغلون عذابات السجون كقوة دافعة في عملهم السياسي، أو مواطنين صالحين يمشون جوّه الحيط، أم أن ما لاقوه من قمع وقهر سيترجم، بشكل أو بآخر، إلى غضبٍ ينسف كل أحلامك في الأمن والاستقرار، كما حدث، من قبل، في عهود سابقة، وإذا لم تكن تستطيع أن تعلن رفضك الظلم ولو حتى بداخل دوائرك الضيقة، فلماذا لا تكف أذاك على الأقل عمن يستنكره أو يعلنه للناس، إذ لربما ساهم ما يقوله، أو ما يكتبه، في إفاقة آخرين من الوهم المبين، وهم أن المستقبل المشرق يمكن أن يصنعه قتلة منعدمو الكفاءة والضمير؟