دروس ألمانية في إدارة الجائحة

دروس ألمانية في إدارة الجائحة

26 ابريل 2020
+ الخط -
وكأنّ المعارك، في عالمنا العربي، لا تكاد تهدأ حتى تعود إلى وطيسها الحامي، وهذه المرّة بشأن المقاربة الأجدى للقضاء على جائحة كورونا، لأنّ الصّين أصبحت المثال الذي يجب أن يُحتذى به ويُحتفى بإنجازاته، في حين أنّ ثمّة من سيطر على الوباء من دون تلك السلسلة من الإجراءات المقيّدة للحريات. 
تتوالى الأيام، وتزداد معها الدُّروس المستفادة من إدارة بعضهم الجائحة، سعياً إلى الخروج بأقلّ الأضرار، حيث لم تصل منظومات صحية لبلدان متقدمة إلى استيعاب عدد المصابين، وارتفع لديها عدد المتوفين من جرّاء الوباء، في حين أن بلداناً أخرى شهدت، بالقدرات نفسها، وبكفاءة الجهاز الصحي وإمكاناته نفسها، من تسجيل انحسار سريع وبأضرار أقلّ ممّا رفع أصوات، هنا وهناك، داعية إلى الاطلاع على تلك الإدارة للجائحة والاستفادة منها للخروج الآمن منها، واحتواء تداعياتها، بما يحول دون تواصل الخسائر، وخصوصاً الاقتصادية، بعد قرارات الإغلاق التام في ربوع العالم.
من المستحيل، الآن، غضّ النظر عن تلك الإدارة وادّعاء أنّ ثمّة مقاربة خاصّة بكل بلد، للتخلّص من الجائحة، وتحجيم تداعياتها، إلّا أنّ العالم في تفاعل، والجميع يريد الوصول إلى ما وصل إليه الدّرس الألماني، لأنّه الذي يتحدّث عنه الجميع، في الغرب، من حيث كفاءة ما يتمتّع به من جهاز صحّي وإمكانات علاجية ضخمة، مع حسن استخدامها بفضل القرارات الحاسمة التي استطاعت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، من خلالها، إعلان السّيطرة على الوباء، والفتح التّدريجي للحياة الاقتصادية والعامّة.
أول درس ألماني للعالم يتركّز في التنظيم السياسي للبلاد الذي يطبق اللامركزية، بفعل الطبيعة 
الفدرالية لألمانيا، بما يوفر دراية كاملة بشؤون المنطقة (الولاية) وكيفية الوصول إلى الاستخدام الأمثل للإمكانات، بقراراتٍ لا تحتاج إلى هرمية وتعقيد، ولا مؤسّسات تتداخل فيها الصّلاحيات، كما هو الحال في إيطاليا وفرنسا، حيث تمنع المركزية الشديدة من الرؤية المتصاعدة والتّشاركية في اتخاذ القرار عند وقوع أزمة تحتاج، أكثر ما تحتاج، إلى الاحتواء السريع بالقرارات الحاسمة، من دون الوقوع في أسر الهرمية التي تصعّب من امتلاك حرية المبادرة للاحتواء السريع بنتائج مبهرة.
يمكن الاحتجاج، هنا، بأنّ الولايات المتحدة وإسبانيا بلدان فيدراليان، ولكن وقع الوباء كان فيهما أليماً بأعداد إصابات ووفيات هائلة. ولكن، هنا، نحتاج إلى الولوج العميق إلى طبيعة النظام الصحي والإمكانات الصناعية الضخمة لألمانيا، إضافة إلى تقدير الألمان المؤسّسات العائلية، المتوسطة والصغرى التي هي أساس النسيج الصناعي الألماني. كذلك إنّ مؤسّسات اتّخاذ القرارات، في البلدين المذكورين، تتميّز، على الرّغم من اللامركزية، بهرمية وبثقل تعدّد المؤسّسات صاحبة الصلاحيات في اتّخاذ القرارات في زمن الأزمات، من دون أن ننسى طبيعة النظم الصّحية المتهالكة في الولايات المتحدة، لغياب التّغطية الصّحية عن عدد هائل من الأميركيين جرّاء السياسة النيوليبريالية المتشددة. كذلك إن المنظومة الصحية الإسبانية، إضافة إلى حالتها المتهالكة، تتصف بعدم توازن التغطية وضعف الإمكانات، مع عامل فجائية الجائحة وعدد الإصابات الهائل، ما صعّب، في كل من البلدين، من استيعاب العدد الكبير من المرضى.
من ناحية أخرى، شاهدنا مع أوّل وهلة للجائحة، كيف تعامل النّظام الفيدرالي في إسبانيا، وهو الذي كان يعاني من إشكالية إرادة الاستقلال من أكبر اقتصاد في البلاد، الاقتصاد الكتالوني، مع الوباء وتفشّيه بسرعة فائقة، وتداعيات ذلك على العلاقة بين الجهاز المركزي (الوزارة الأولى ووزارتي الداخلية والصّحة) والحكومات الإقليمية، ما انجرّ عنه تأخّر في اتّخاذ القرارات الحاسمة في الوقت اللّازم.
وبالنّسبة إلى الحالة الأميركية، نجم عن الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين، في الكونغرس، أو في الولايات، مع فجائية التفشي السريع ومزاجية الرئيس الأميركي في التعامل مع القرارات السياسية، هذا العدد الهائل من الإصابات والوفيات في ظرف عصيب، كان الجدال الكبير فيه ليس احتواء المرض، بل معاقبة المنظمة العالمية للصحة والسّرعة/ التسارع إلى إعادة فتح الاقتصاد الأميركي، من دون الاهتمام بالتداعيات من انعكاس ذلك على كارثة صحّية غير مسبوقة في تاريخ أميركا.
يتمثّل الدّرس الألماني الآخر بامتلاك ألمانيا منظومة علمية ونسيج مخبري على أعلى طراز، 
استطاع، بعد اتّخاذ قرار سريع بتوفير تجهيزات الفحص وإعداد المستشفيات لاستقبال المرضى، من الوصول إلى نتيجة باهرة في عدد الفحوصات اليومية (50 ألفاً) في ظرف قصير، مع السّرعة في تكليف المخابر البحث عن بروتوكول علاجي، ثم السّعي إلى ابتكار لقاح للوباء، نتج منه تنافس محموم بين ألمانيا والولايات المتحدة في الاستحواذ على تلك الأبحاث، أو تحويل مجهود الألمان إلى مشروع استثماري نيوليبرالي، أوقفت المستشارة الألمانية مسار صفقته المشبوهة، بقرار لا نراه إلّا في ألمانيا.
تمتلك ألمانيا، في درس أخير، مستشارة منتخبة ديمقراطياً وصاحبة كفاءة (شهادة عليا في الفيزياء) وتجربة في التّعامل مع الأزمات، إضافة إلى الاستخدام الأمثل لكلّ الإمكانات، والاستفادة من طبيعة النّظام الإداري/ السياسي الألماني، لتحويل الجائحة إلى مجرّد أزمة خرجت منها البلاد منتصرة، إلى حدّ كبير، بأقلّ الأضرار، وبعودة إلى الحياة الطبيعية، وفتح للاقتصاد، تدريجي لكنّه أكيد، في انتظار الاحتواء الكامل للجائحة واكتشاف اللقاح المأمول من المخابر الألمانية.
في المحصلة، الدّرس الألماني هو انتصار للّامركزية في اتّخاذ القرار والديمقراطية في توسيع لدائرة الاستشارة، مع الاعتماد على الكفاءة، النسيج الصناعي المتقدّم، الصناعة المخبرية والكيميائية ذات الصّيت العالمي، ومنظومة صحية متكاملة، ليكون ذلك درساً لعالمنا العربي المحتفي، في أجزاء منه، بالسيطرة على الوباء بإجراءات محمودة العواقـب، بالنظر إلى بقاء الوباء بإصابات وأعداد وفيات في حدود المعقول، ولكن غير متكاملة في ما يخص تداعيات الجائحة على المستوى الاقتصادي، ومن دون أن تكون الأزمة منطلقاً لإعادة بناء الهرمية الاجتماعية، لتصبح قائمة على الكفاءة، باعتباره المعطى الذي يسمح بالوصول إلى مناصب اتخاذ القرار أو الديمقراطية للوصول إلى الحكم.
طبعاً، لا يمكن الدعوة، من خلال التعلم من الدرس الألماني، إلى تغيير طبيعة الحكم، ولا إلى تبنّي التجربة بحذافيرها بفعل عامل التمايز الاجتماعي الذي يختلف من بلد إلى بلد ودرجة تقدّمه الاقتصادي. لكن المدعو إليه هنا، استدعاء هذا الدّرس، لتدارك الأخطاء واستخلاص العبر، لاعتماد مقاربات حكم وإدارة تكونان في مستوى المحنة التي تلد الهمّة، وليس المحنة التي ننتظر الخروج منها.
السّعيد من اتّعظ بغيره، فلماذا لا يكون الدّرس الألماني دعوة إلى التّغيير، وتبني مقاربة العلم والكفاءة سبيلين للحياة والقضاء، إلى الأبد، على الاستبداد، في إطار عقد اجتماعي نتعاهد فيه، شعوباً وسلطات، على التعلّم من الجائحة لبناء الإنسان والاستثمار فيه، فقط، وجعله محور الحياة، لأنّ الإمكانات متوافرة، مادية وعلمية. بصفة خاصّة، قد يكفي، بعيون حزينة، إيراد مشهدين، للاعتبار منهما: أوّلهما للرئيس الفرنسي، ماكـرون، وهو يسأل الأطّباء والممرضين في مرسيليا (جنوب فرنسا) عن أصولهم، في مستشفى جامعي يقود الحرب ضد الوباء، ليكون الجواب: نسبة كبيرة منهم من تونس والمغرب والجزائر، إضافة إلى بلدان أفريقية. وثانيهما خبر أوردته صحيفة جزائرية، أن خمسة آلاف طبيب جزائري يعملون، منهم من هو دون وثائق، في الصفوف الأولى، في فرنسا، للحرب ضد الجائحة.
هي دعوة هنا إلى التعلم من الدّرس الألماني، واستخلاص العبر منه للمستقبل.