دراما دولة المليشيات المصرية

دراما دولة المليشيات المصرية

04 يونيو 2020
+ الخط -
أحدث المسلسل المصري "الاختيار" الصدمة والدوي المخابراتي المطلوبين في نهاية عرضه. أما الصدمة فكانت من مُقاومي الانقلاب المصري؛ فلم يكونوا يتخيلوا أن تصل الحماقة بدراما إعلام النظام إلى تكثيف الانقسام داخل المجتمع إلى حد جمع نهج وتوجه الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل الثوري مع جماعة الإخوان المسلمين مع تنظيم الدولة الإسلامية، ومساواة الجميع مع التكفيريين، وخصوصاً في سيناء. وأما الدوي فكان من أنصار النظام المُهللين له على كل فعل؛ ولو خالف المنطق والحقيقة والواقع. ولكن النظام المصري لم يكتف بما أورده المسلسل من وقائع مُشكوك في صحتها، إن لم يكن بعضها على الأقل مُختلقاً من الأساس بشأن ضابطين بالجيش المصري، أحدهما استمر في عمله حتى تم قتله (أحمد منسي)، والآخر انقلب على عمله في الجيش وانضم لمُحاربيه في سيناء ثم سافر إلى ليبيا قبل أن يعيده النظام ويعدمه في مارس/ آذار الماضي (هشام عشماوي). ومع البطلينِ الأساسيينِ للعمل الدرامي، تم استدعاء عشرات آخرين من سجل الواقع، وتصوير بعضهم أبرياء إلى درجة الملائكية؛ أو مجرمين إلى منزلة لا تقل عن الشياطين؛ من دون تروٍّ من صُنَّاع المسلسل الذي أنتجته المخابرات الحربية المصرية المُهيمنة على المشهد في داخل مصر بغطاء مُباشر من الشؤون المعنوية في القوات المسلحة، ثم من شركة "سينرجي" التي تُهيمن على الأعمال الدرامية الرمضانية المصرية منذ عام 2017، في تملك واضح لجميع مفردات الحياة في مصر، ومحاولة توجيه انفعالي عاطفي للمصريين، لقبول الأمر الواقع وهيمنة النظام عبر تملك كل مفاصل الدراما، وتوجيهها لخدمة أفكار الدولة لملء مساحات التفكير والشعور لدى الأجيال الجديدة بأنه لا أمل في تغيير أو ديمقراطية مُقبلة في مصر، مع شيطنة كل فعل ثوري أو مجرد محاولة تفكير؛ وإشعار الأجيال الأكبر سناً بالفشل في تجاوز طغيان الأنظمة العسكرية المسيطرة على البلاد منذ 1952.
خدمة الفن الأنظمة في وقت ضعفها وهزالها الشديد بل تأكدها الخفي من عدم سيطرتها على المشهد، وخوفها من حدوث أي جديد ولو عارض يُطيحها، أمر غير جديد، خصوصاً في المشهد المصري، سبقه ما فعله نظام الرئيسينِ جمال عبد الناصر وأنور السادات معاً بين هزيمة 1967 وانتصار 1973؛ وكان سلاح النظام لإلهاء الشباب عن السقطة المريعة لمصر في الحرب الأولى هو الجنس، ففي حين كانت المؤسسة العامة للسينما تُداري على المشهد بإنتاج أفلام جيدة ("ميرمار" و"شيء من الخوف" مثلاً)، كان النظامان يُصدران المُمثلين المصريين إلى
 استوديوهات في الخارج لتمثيل أفلام بالغة الفجاجة الجنسية، وذلك لإشغال الشباب عن التظاهرات وإحداث القلاقل الداخلية. ولكن "الاختيار" فاق تلك الأفلام التي تعد بالعشرات داخل مصر وخارجها، بأن قدم سلاحاً جديداً لإلهاء المصريين عن واقع لا يختلف عن الهزيمة العسكرية كثيراً، بعد أن أبعد عبد الفتاح السيسي وجهه عن عدو مصر الاستراتيجي، أو الكيان الصهيوني، ووجه عداوته نحو فصيل من الشعب المصري، هو الإخوان المسلمين، ظاهرياً، فيما هو يُحارب ويضاد كل ثوري يريد عودة الديمقراطية. وفي ظل هذا الاتجاه، صار المُعادل الموضوعي الفني الدرامي لإلهاء المصريين عن واقعهم بالغ السوء هو الدماء؛ بالمبالغة في تصوير أعداء الوطن وكأنهم كل الثوريين ومساواتهم بالإرهابيين، والانطلاق من معركة الجيش الحقيقية في سيناء ضد التكفيريين إلى تصوير الأمر وكأنه يُحارب الإرهاب على امتداد مصر في صورة كل منادٍ بعودة الكنانة إلى مسار 25 يناير.
لم يكتف نظام السيسي بذلك كله، ولا بتلفيق كل خيباته في سيناء للراحل الضابط المُستقيل هشام عشماوي، وهي الناتجة عن تقصير السيسي في حماية الجيش، وجزء عزيز من أرض مصر، وإنما عمل بطريقة المليشيات المُسلحة حينما تنتقم من عدو مُفترض لها، بأن نشر عقب انتهاء بث "الاختيار" مقطع الفيديو الذي تم إعدام الضابط عشماوي فيه من دون مُراعاة لإنسانية أو أدبيات الدولة؛ أو حتى أدنى خلق أو كياسة، وفي تشفٍ واضح في مُتوفى، إن كان أخطأ فقد لقي جزاءه وهذا يكفيه، وإن كان بريئًا فقد وجب على النظام الاكتفاء بسابق ظلمه له. وجاءت النتيجة بحث المصريين عن سيرة الضابط العشماوي، وإعادة قراءتها، بل تبني بعضهم نهجه بحسب المسلسل، طالما أنه أجهد النظام بهذا القدر حتى بعد إعدامه، وهو ما نحسب أن النظام تعمده بجدارة، إذ إنه مع إرادته تقبيح صورة مُقاوميه، أراد أيضًا بـ"الاختيار" نفخ مزيد من النيران في أتون الفرقة الشديدة في البلاد، فالجميع معاد للجميع بحسب ظنه ودراماه الخارقة لأبسط قواعد الدراما والحياة. وذلك المسلسل الذي سيسقط من ذاكرة الواقع والفن بمجرّد انتهاء حكم النظام الحالي، حاول إقناع أهل الكنانة أن الدماء ستفيض في الشوارع إن تركهم السيسي، فيما الحقيقة أنه هو الذي يهدر تلك الدماء ويتعمد استمرارها ليبقى.