دراما الثلج والنار بين رمضانين

دراما الثلج والنار بين رمضانين

24 مايو 2020
+ الخط -
"نصّي ثلج ونصّي نار".. شعر شعبيّ كتبه الراحل كاظم الكاطع، وغنّاه كاظم الساهر، وبين الكاظمَيْن كثيرون من أمثالي ممن لا يقوون على كظم غيظهم، ليس بسبب الهجمة الدرامية الرمضانية التي حاصرتنا على شاشة التلفاز يوميًّا، بل جرّاء التداعيات التي تركها الثلج والنار في الجسد العربيّ في حقبتين متباينتين، لا يفصل بينهما غير بضعة رمضانات وحسب. 
تمنيت لو لم يكتب الكاطع هذه العبارة، على الرغم من هيامي بها وبصاحبها الذي كان صديقًا أثيرًا منذ أيام بغداد ومقاهيها، فما إن تجمعنا سهرة منادمة، حتى أطالبه بقراءة القصيدة التي تتضمنها هذه العبارة باستمرار.
آنذاك، لم أكن أعرف أن ثمة قومًا "ماكرين" سوف يستفيدون من هذه العبارة، ويوظفونها على غير وجهها الذي أردناه، أنا والشاعر والساهر. كنّا ننظر إليها كأدقّ وصفٍ لحال العاشق المتبتّل الذي يشطره الهوى إلى نصفين متنافرين، ولم يكن يدور في خلد كل منا أن تلتقطها أجهزة الأمن العربية لتوظفها أسلوبًا جديدًا من أساليب تعذيب المعتقلين، بأن تُخضع الضحية لجولتين متلاصقتين من المياه الباردة والساخنة تباعًا حتى يتهالك الجسد، وتدخل خلايا الجلد في دوامة من "الثلج والنار"، إما لانتزاع الاعترافات أو لإلصاق التهم بالضحايا الذين يبحثون عن أي خلاصٍ يقيهم عذاب هذه الدوامة.
أيضًا، لم يدر بخلدي، أن يستفيد ماكرون آخرون من صنّاع الدراما العربية من ثنائية "الثلج والنار"، في حقبتين مختلفتين لا يجمع بينهما غير رمضان وضحايا الشاشات العربية، من أمثالي، الذين أودى بهم سوء طالعهم إلى أن يعيشوا الزمنين معًا، فيلتهب نصفهم في الحقبة الأولى، ويتجلّد النصف الآخر في الثانية.
كم رمضانًا مرّ على مسلسل "رأفت الهجّان"، أعني في حقبة النار؟ لا أدري بالضبط، غير أن ما أعرفه آنذاك أننا كنا نتحلّق حول عمل دراميّ عظيم القيمة، لا بأبطاله وحبكته وإخراجه وموسيقاه فحسب، بل لقصّته وما كانت تستنهض فينا من حسّ عروبيّ، خصوصًا وأنه يروي وقائع صناعة بطل عربيّ وزرعه في صلب الكيان الصهيونيّ. كانت تحلّق بنا الدراما تلك إلى فضاءات اللهب، فتصيبنا حمّى الوطن بسخونتها اللذيذة، وتتركنا نرتع في حدائق بطولاتٍ تبقي فينا ومضة الأمل بالتحرير وكسر أسطورة العدوّ.
أما في النصف الجليديّ من الزمن الجديد الذي تتسيّده أعمال درامية باهتة، أبطالها رجال الثلج، فينهار علينا صقيعٌ مريبٌ يبدّد تلك الحمّى اللذيذة التي استوطنت أحلامنا زمنًا طويلًا، وتأتي الدراما الماكرة الجديدة لتجلدنا بسوط الهزيمة، ولتضيف حلقاتٍ جديدة إلى مسلسل الخيبة العربية الذي تجاوز أبطاله حدود الشاشات، وأصبحوا كائناتٍ واقعيةً تحيا بيننا بوقاحة، وتشاركنا حياتنا اليومية بصفاقة.
من نسل هذه الدراميّات والمدوّنات الجديدة، يخرج علينا "أبطال" جدد من قبّعات الحواة، لا يحملون ملامح رأفت الهجان، بل ملامح السماسرة والمساومين على مصائر الأوطان، بعضهم يتبنّى الرواية الصهيونية بشأن الحقّ اليهودي في فلسطين، وآخرون يذهبون أبعد حين يطالبون بإبادة الفلسطينيين الذين "يحتلّون" أرض الميعاد، أما الأقل خجلًا فيعلنون صراحةً أنهم براءٌ من القضية الفلسطينية وأهلها.
على هذا النحو، في وسعنا أن نتفهّم الأسباب الخفية التي تقف وراء هذه المدوّنات والدراميّات الجديدة التي تطاردنا في شاشات التلفاز والهواتف وخارجها، لأنها تسطّر عنوان مرحلة يحاول أبطالها التمهيد والتسويغ لقرارات سياسيّة مفصلية سيتخذها "أبطال" آخرون يعتلون العروش، بشأن الاندماج الكامل مع إسرائيل، وتحويلها من خنجرٍ في الخاصرة العربية إلى سهم عشق في القلب.
على أنني أحمد الله أن نصفي المشتعل بمرحلة رأفت الهجان كان النصف العلويّ الذي يمتلك رأسًا لن تعبث بمبادئه ترّهات هؤلاء "الأبطال الكومبارس"، وقلبًا لن يخفق إلا لفلسطين الحرة من نهرها إلى بحرها، وأزعم أنّ كثيرين يشاطرونني هذا النصف. أما النصف السفليّ فلن يستقبل مثل هذه البطولات المزيفة، لأنها حكايا مفبركة كتبت حبكاتها على عجل، ولعب أدوارها نكراتٌ لن يحفظهم التاريخ إلا في مكبات النفايات.
وبانتظار أن تعود ثنائية الثلج والنار إلى منبعها الشعريّ فقط، سأبقى مترحمًا على صديقي الشاعر كاظم القاطع.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.