دان فانت: خَفَت الجنون من حوله

دان فانت: خَفَت الجنون من حوله

09 ديسمبر 2015
(تصوير: جان لوك بيرتيني)
+ الخط -

كيف تصير كاتباً وأبوك نفسُه كاتبٌ كبير وشهير؟

كانت هذه معضلة دان فانت (1944 - 2015)، نجل الكاتب الأميركي ذي الأصول الإيطالية جون فانت (1903 - 1983) صاحب رواية "اسأَل الغبار" التي تحوّلت إلى واحدة من كلاسيكيات الأدب الأميركي الحديث وجعلت صاحبها أحد رواد حركة "بيتنيكس" وملهم أجيال عديدة في الأدب الأميركي المعاصر؛ من جاك كيرواك إلى شارل بوكوفسكي، مروراً بفلييب روث وهوبير سليبي وآخرين.

قبل أن يرحل الإثنين الماضي، عن 71 عاماً، عانى فانت كثيراً من العيش في جلباب أبيه، هو الذي ولج عالم الكتابة متأخّراً في سن الخامسة والأربعين، بعد حياة متقلّبة تخلّلتها فصول طويلة من الألم والمعاناة.

وُلد دان سمارت فانت في لوس أنجلس. وما إن بلغ السابعة عشرة من العمر حتى هاجر من مسقط رأسه في ولاية كاليفورنيا إلى مدينة نيويورك لتحقيق حلم الكتابة. لكن الحياة كان لها رأي آخر، فأدخلته بقسوة في دوّامة عيش مرير راكم خلاله الكثير من المهن الصغيرة والمذلّة أحياناً بالنسبة إلى شاب يحلم بالمجد الأدبي.

عمل بائعاً جوّالاً وسائق تاكسي، ثم زبّالاً وحارساً ليليّاً. وكان يتنقّل بين المهن بسرعة وبشكل دائم، مؤجّلاً الكتابة إلى اليوم التالي، ومخصّصاً بقية أوقاته لهواية شرب الكحول، التي تحوّلت مع مرور السنين من متعة مسلّية إلى إدمان مرضي مزمن دمّر حياته.

تطرّق فانت إلى هذه "اللعنة" التي وصمت حياته وحياة العديد من أفراد عائلته في كتابه "الشراب، الكتابة والبقاء على قيد الحياة: إرث عائلي"، وكشف بأن "سكرته الأولى" كانت في الرابعة من العمر، وكتب: "بشكل عام، يحتفظ الناس من طفولتهم بطعم الحلوى أثناء حفلات أعياد الميلاد أو ذكرى حيوان منزلي أليف. أمّا أنا فلم أعش هذا إطلاقاً. وأجمل ذكرى احتفظتُ بها من طفولتي هي حالة الانتشاء التي اعترتني عندما أفرغتُ في جوفي كأسين من البيرة منسيّتين على طاولة الصالون".

حاول التوقّف عن شرب الكحول وتناول المخدرات مرّات عديدة، لكنه كان دائماً يعود إليهما بسبب مشاكله النفسية وشعوره المزمن بالإحباط والحرمان والفشل. في حوار لملحق الكتب في صحيفة "لوموند" العام الماضي قال: "كنت سكران بشكل متواصل لأعوام طويلة. وعندما استيقظتُ، أحسست بحياتي وكأنها رحلة رهيبة وطويلة".

كانت الصدمة الأولى التي زلزلت كيانه هي موت أخيه الأكبر نِك بنزيف معوي بسبب إدمانه هو الآخر على الكحول. فوشم في ذراعه اليمنى هذه الجملة لتذكّره بضرورة التوقّف عن الشرب: "نِك فانت، أخي الذي مات بسبب الكحول".

لكنه لم ينجح في التخلّص منه سوى بعد بلوغه سن 56 عاماً، عندما أدرك أن الكحول هو قاتل الرغبات وعدوّه الأول الذي وقف سدّاً منيعاً في وجه أحلامه في الكتابة والإبداع.

كتب فانت الشعر والقصة القصيرة والرواية، وأيضاً عدّة مسرحيات. لكن محاولاته النشر باءت بالفشل، بعد أن رفضت العديد من دور النشر الأميركية، الكبيرة والصغيرة، نشر نصوصه بحجة أنها "واقعية جدّا" و"صادمة".

لكن الخلاص سيأتي من حيث لن يتوقّع؛ حين نجحت صديقته المغنية الأميركية أبريل مارش في إقناع دار النشر الفرنسية "روبير لافان" بنشر روايته الأولى التي صدرت بعنوان "الملائكة لها جيوب خاوية"، والتي لاقت نجاحاً لافتاً، قبل أن يعيد نشرها بالإنجليزية في بلده الأم.

بعدها، نشر ثلاث روايات أخرى: "الرأس خارج الماء" و"البصق من سطوح البنايات الشاهقة" و"سيارات ليموزين بيضاء". شكّلت هذه الروايات رباعيةً مسلسلة استلهم فيها سيرة حياته المتشظّية ومغامراته مع النساء وإدمانه الكحول وأيضاً علاقته الإشكالية مع والده، عبر شخصية رئيسية أطلق عليها اسم "برونو دانت". كما كتب أربع مجموعات شعرية ومجموعتين قصصيتين ونصّين مسرحيّين ودراسة حول تجربة أبيه في هوليوود.

تندرج كتابة فانت في خانة الأدب "الواقعي القذر" الذي يحاول نقل التجارب اليومية في شقّها الأكثر بذاءة، أي تجارب الإدمان على الكحول والمخدّرات وقصص الحب الفاشل والحرمان الجنسي. كل هذه القصص مكتوبة بأسلوب مباشر ومعجم استفزازي من مفردات الحياة اليومية يعكس علاقة صدامية مع المجتمع وموضوعاته وميلاً جارفاً إلى العزلة وتدمير الذات.

تناول فانت الحياة من زاوية الألم، وتلخّصت مهمّته في استكشاف الجانب المظلم منها؛ حيث تظهر طبيعة الإنسان المتناقضة وميله إلى العنف والإجرام. كانت الكتابة عنده خليطاً هائجاً من الصراخ وصيحات الاستغاثة في عالم موبوء لا مكان فيه للملائكة. قد يجد بعضهم هذا الخيار صادماً ومستفزّاً، لكن أحداً لا ينكر أنه نجح في نقل التجارب الأكثر فظاعة، بصدق وعدم مهادنة.

إضافةً إلى أبيه، تأثّر فانت كثيراً بالكاتب هوبير سليبي صاحب رواية "آخر منفذ إلى بروكلين" وبالشاعر شارل بوكوفسكي الذي كان هو بدوره من أشد المعجبين بروايات فانت الأب وكتب مقدّمة شهيرة لإحدى طبعات رواية "اسأل الغبار".

بعد شفائه من الإدمان، عاش فانت بقية حياته يكتب تقريباً كل يوم، وبوتيرة سريعة، وكأنه يريد أن يعوّض كل تلك السنوات التي عاشها من دون كتابة. في أحد حواراته الأخيرة قال: "كتبتُ لأخنق العُواء في رأسي. وعندما بدأتُ الكتابة أدركت أنني حين أضرب على الآلة الكاتبة لن أقتل نفسي. هكذا واصلتُ الكتابة مثل مجنون إلى أن خَفت الجنون من حولي".



اقرأ أيضاً: 
لغز نِك آدمز

المساهمون