داعش سيُهزم... لكن

داعش سيُهزم... لكن

05 ديسمبر 2015
+ الخط -
مع مطلع هذه الألفية الثالثة، ازدادت الأوضاع في العالم العربي سوءاً وتأزماً، كما نعلم ونشهد. فمنذ الضربات المدمرة للحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ضد البنتاغون في واشنطن والمركز التجاري العالمي في نيويورك، خيم على العلاقات الغربية الإسلامية إجمالاً جو متوتر مشحون، تبرز فيه أميركياً، وحتى في بلدان أوروبية، مشاعر التوجس وسوء الثقة بإزاء المجموعات العربية والإسلامية. وفي الموجة المعادية لهذه المجموعات، لا يوجد بين جنحة الاسم والمسحية واتهام الإسلام، ديناً وثقافة، إلا عتبة لا يتردد صقور السياسة الغربية من شتى الأطياف في تخطيها، تدعمهم معاهد دراسية وحاويات فكرية (Think Tanks) بأيديولوجياتها ومستشاريها وخبرائها.
تمخضت ولايتا جون والكر بوش، مرفقتين بصعود المحافظين الجدد، عن انتصارين عسكريين في أفغانستان والعراق، شبيهين، مع وجود الفارق، بانتصار الإمبراطور الروماني بيروس، إذ كانتا فائقتي الخسارات المادية والبشرية المدمرة، ومن ثم خلقتا شروط نشوء وتقوية ما يسمى "الإرهاب"، فصار هذا مندرجاً بالضرورة، في المدى البعيد، نظراً لارتباطاته العضوية المعقدة بالاختلالات الدولية وحالة الفقر والهشاشة في معظم أصقاع العالم. ويحق للفيلسوف الألماني يورچن هابرماس، أن يكتب: "إن نظرة استرجاعية إلى "11 سبتمبر" لا يمكن إلا أن تجعلنا نلاحظ، كما فعل عدد من أصدقائنا الأميركان، أن "الحرب على الإرهاب" كسرت المجتمع الأميركي سياسياً وذهنياً". (جريدة لوموند 22-23/11/2015).
تلك الأحوال الموغلة في السوء والاستفحال على امتداد جل بلدان المشرق العربي هي التي ما زالت الإدارة الأميركية تَخبرها، وتعاني من واقعها وتبعاته في عهد باراك أوباما، وتعمل على مغالبته في العراق وسورية، ولا سيما بعد بروز تنظيمات جهادية، أعتاها وأخطرها تنظيم داعش المتفوق على تنظيم القاعدة، عسكرةً وامتلاكا لأرض وقواعد، ولأحدث الوسائل التكنولوجية والاتصالية. وقد نزعم، تفعيلاً للقراءة التناظرية، أن في ذاكرة معظم أعضائه وجوارحهم انطبعت مخلفات الحرب الأميركية على العراق (ربيع 2003) وآثارها الكارثية على كل الصعد، حرب تحمل، على سبيل المثال، رقم 500.000 قتيل عراقي، أغلبهم من المدنيين (مقابل 50.000 جندي أميركي وآلاف المعطوبين جسدياً وعقليا)؛ أضف إلى ذلك أعمالاً أخرى مهولة: تقويض الجيش والدولة العراقيين، عوض الاكتفاء بعزل صدام حسين ومعاونيه ومحاكمتهم، فكان مثله كمثل من يجتث شجرةً بحرق الغابة كلها؛ تغليب الشيعة على السنيين، وإشعال الحرب الطائفية واستغلالها؛ شحن سجن أبو غريب الرهيب بأحدث صنوف التعذيب، وأفظع منه سجن غوانتنامو، حيث اللون البرتقالي للباس السجناء هو نفسه الذي اختاره الداعشيون لرداء المحكوم عليهم بقطع رؤوسهم.
أما اتصاف داعش بالقساوة والعنف الأقصى في عملياته العسكرية السريعة الماحقة، ومعاملته
الشرسة الأقليات من زيديين ومسيحيين، فمن المحتمل جداً أن قياديي التنظيم (ومنهم أطر في الجيش العراقي المنحل) استوحوا ذلك من نظرية "الصدمة والترويع" Shock and Awe (من وضع الاستراتيجيين أولمان وواد) التي طبقها الجيش الأميركي، بكل قوته، في أثناء غزو العراق الساحق، في السنة المذكورة. وقد رأى خبراء غربيون، وحتى في البلدان الإسلامية، أن العمل بتلك النظرية إن هو إلا صنف آخر للإرهاب. ومن العجيب حقاً أن نجد ذلك الصنف بالتسمية نفسها عند الأشوريين القدامى في القرن التاسع قبل الميلاد، يمارسه ملوكهم، أشهرهم أَنَنْسَلين الذي كان يعلق الجثث مبعوجةً في الممرات المؤدية إلى قصره، وذلك كيما يُصدم برؤيتها، ويُروع زواره وطالبيه من خصومه ورعيته، ويحطم معنوياتهم قبل لقائهم، كما هو أحد أهداف النظرية تلك. وقد استلهم جوزيف كونراد هذه التقنية في روايته "قلب الظلام" التي حولها فرنسسكو كوبولا إلى فيلمٍ، هو رائعته "Apocalypse now" (القيامة الآن).
هذا وإن وجه جدة آخر عند داعش يكمن في انضواء جهاديين أجانب في صفوف داعش، من جنسيات متعددة، وهؤلاء كأنما هم وفدوا أفراداً وأفواجاً عديدين، ملبين نداء مفاده: يا مقهوري كل البلدان والساخطين على الدول المستبدة اتحدوا... وهو على منوال نداء البيان الشيوعي لماركس وإنجلز "بروليتاريي العالم اتحدوا".
ولعل ما يلقي ضوءً كاشفاً على هذا الوضع الجديد البالغ التناسل والتعقيد اعتراف رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وشهد شاهد من أهلها، إذ كانت بلاده في عُهدته ضالعة مع أميركا في الحرب على العراق، ومفاد الاعتراف في شبكة CNN أن هذه الحرب هي التي هيأت الشروط والتربة لنشأة داعش وترعرعه، واعتذر عن الأخطاء الاستخبارية والتخطيطية، وهي، في الحقيقة، آثام وخطايا. وأفظع من هذا تبرير غزو العراق بادعاء مضلل أن نظام صدام حسين كان حليف تنظيم القاعدة، ويمتلك سلاح الدمار الشامل؛ وللبرهنة عليه، أتى بعينةٍ منه في قارورة وزير الخارجية آنذاك، كولن باول، وأخذ يلوح بها في جلسة منظمة الأمم المتحدة؛ ونتذكّر، في المحفل نفسه، خطاب الدولة الفرنسية المعارضة لتلك الحرب، على لسان وزيرها الأول، دومينيك دوفيلبان. ولم تنفع تلك المعارضة في كبح جماح الإدارة البوشية، وثنيها عن تحدي المنتظم الدولي، وخرق مواثيقه وقوانينه.
أما عموم مثقفينا فما تحادثوا عن تنظيم داعش، وقبله القاعدة، إلا وتباروا في إذكاء جذوة السباب الحادّ والذم البليغ في حق التنظيمين، غير مُعملين منهج التعليل التاريخي في النظر والتحليل، إذ، بمقتضى هذا المنهج، نتأدى إلى أن تصاعد الضغط الهيمني القهري يولّد بالضرورة ردات أفعال انفجارية، من مضاعفاتها، من جهة، فك الارتباط الكلي مع الغرب، وممارسة الصدام اللامتكافئ معه (asymétrique) الذي يسمى الإرهاب.
لكن تنظيم داعش الذي يلج ويبرع في تأليب العالم كله ضده لن يصمد طويلاً أمام تحالف قوى الغرب مجتمعة، تعضدها أخرى إقليمية، وخصوصا مع دخول روسيا على الخط، وكدح فرنسا إلى تلك الغاية، بعد ضربات موجعة في باريس ليلة 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015. فكأنما هذي القوى العظمى تجد نفسها أمام قوة داهمة، يحسب لها ألف حساب! والغالب على الظن (إلا أنْ تحدث معجزة) أن داعش سينتهي بها الصراع إلى الانهزام، شأن تنظيمات حفل بها تاريخ المنطقة، من أشهرها فرقة الحشاشين الإسماعيلية في قلعة ألموت، بزعامة قطبها الروحي ورائد الإرهاب السياسي بامتياز، حسن الصباح، والتي آلت، منتصف القرن السابع الهجري (13 م) إلى الاندحار على أيدي الجيوش المغولية الغازية. إنما السؤال الذي لا بد من طرحه: هل من يقين أن تنظيم داعش (الناشئ عن تنظيم أبي مصعب الزرقاوي) لن يخلفه بعد أفوله تنظيم جديد (أو تنظيمات شتى) أشد وأعتى، يستفيد من غلو سلفه وأخطائه، ويبتكر صيغاً وطرائق قتالية مستحدثة غير مسبوقة؟

F74B8FB1-FC4B-4CD7-92B2-DD9324DF382C
بنسالم حمّيش

كاتب وروائي وشاعر ومترجم وباحث وأستاذ جامعي مغربي، ووزير سابق للثقافة