خيارات المستسلمين
تارةً يفكر، وتارةً يبتعد إلى علياء نفسه، محاصراً بالهموم، منهكاً، بعد أن تأمل المشهد السوري وواقع الثورة من داخله، كان جريئاً حين اختار القلم والعمل السلمي، آنذاك، لكنه اكتشف مع الأيام ثغراتٍ كثيرة، عسكرياً وإغاثياً، سياسياً بل وحتى اجتماعياً. رويداً رويداً قرر الابتعاد، حتماً لأنه، ولأعوام طويلة، وكغيره، ظن أن التآلف بين الناس هو الظاهرة الأقوى في المجتمع السوري. فالراسخ في الأذهان ما روّجه الإعلام، طوال السنوات الماضية، لم ينتبه إلى أن الخوف وحده ما أزال الفروق الطائفية والاجتماعية، لا المحبة أو المواطنة أو القومية التي حفلت بها كلمات المسؤولين وكتب المدارس.
لا أتحدث عن فردٍ واحدٍ ترك مقعده، واعتكف في صومعة فكره، بعيداً عن مجريات الثورة، مستمداً جُل معلوماته من صفحات التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فهي تكاد تصبح ظاهرة، ليخلو الطريق أمام الانتهازيين واللصوص والمتطرفين، حتى إن بعض الذين ثاروا بقوةٍ وفكرٍ تراجعت حماستهم، وغلبت أطماع الدنيا ومصالح شخصية على همهم الثوري.
قطعاً، لا يمكن أن يتحمل المقاتلون تبعات الفساد التنظيمي والتاريخي الذي يعانيه المجتمع السوري، فسنة التغيير تفرض بعض الفوضى، إلى حين حدوث صحوةٍ شاملة، وقوةٍ تفرز الناس وفق قواعد عملهم وإخلاصهم.
فالفوضى هي المبرر الأساسي للانسحاب في الداخل، وليس مغادرة البلاد، وفقدان الأمل، بل ربما الإيمان العقائدي بما يقوم به هؤلاء، وهو، بكل الأحوال، "فشلٌ واستسلام"، إذ لا يمكن التعبير عنه إلا بالرضوخ للأقوى، وإن كان فاسداً بالتالي، هي اعترافٌ ضمني بالهزيمة.
"إن اختيار المستسلمين لا يوازي اختيار الأحرار"، كلماتٌ يقولها إحسان عبد القدوس، ينبغي تأملها، إذ إن تاريخ الثورات تاريخ خطواتٍ، يجب أن نعيشها، لا أن نتجاهلها مستسلمين.
مشكلتنا في أن الإنسان أناني بطبعه، يطل على العالم من وراء أناه الخاصة، لا يهتم إلا بما يفيد هذه الأنا، وكأن العالم لم يُخْلَقْ إلا من أجله. عكس ذلك، يوجد أفراد متميزون عن الآخرين، تجد الواحد منهم يتصرف، وكأن الأنا عنده تجمّدت درجة صفر، هؤلاء الأفراد الاستثنائيون قليلون، الإنسانية يمكن أن تسير بطريقة عادية، تعتمد، أساساً من حيث الكم، على الفرد العادي (الأغلبية). يشتغل هؤلاء بطريقة دائمة كل واحد لحسابه الخاص (الأغلبية)، ويتدخل بين فينة وأخرى أفراد يُحْسَبُونَ على رؤوس الأصابع، يقومون بعمل استثنائي، يسمى "الخدمة العامة".
والجماعة عندما تحتاج إلى أن تتغير (حدث نادر) تستنجد بهؤلاء الأفراد النادرين، هؤلاء يقدمون الخدمة المطلوبة منهم، ويرجعون إلى الوراء.
هذا الرجوع قد يُعزى لأسباب كثيرة، لكنه سبب عثرةً ومراوحةً في المكان، مع ما يعتري المشهد من صورةٍ قاتمة توحي بأن الغلبة للباطل.
والتفسير الوحيد لضعف الثورة في أنها حصرت نفسها في مظاهر الحالات التي واجهتها، من دون أن تصل إلى بواطن كل حالة، لتجعل منها قضية وطنية وإيمانية، تسعى إلى كسبها.
والسبيل الأمثل، في اعتقادي، للخروج من هذه الحالة أن نعيش للثورة من دون أن نستسلم للفشل، لأننا مقتنعون بأن الثورة لا تزال مستمرة، وأننا يجب أن نعيشها كأننا في بدايتها، حتى تحقق أهدافها.
يغلب الطابع الفكري على العمل الثوري اليوم، فهو يعمل باتجاهين: محاربة التطرف من النظام السوري ومليشياته، وتطرفٌ آخر هو الانهزامية التي ركن لها بعضهم.