خواطر بشأن تونس والسودان

خواطر بشأن تونس والسودان

20 سبتمبر 2019
+ الخط -
(1) 
على الرغم من عثرات ومشكلات واجهت الثورة التونسية، إلا أنها تعد التجربة الأكثر نجاحا ضمن الثورات العربية، أو الربيع العربي، فمشهد المرشحين، باختلاف انتماءاتهم وحريتهم في الدعاية لبرامجهم، وتلك المناظرات الحرّة التي أجريت يذكّر بالآمال الكبيرة التي كانت لدينا عام 2011، بعدما توهمنا نجاح موجات الثورة، وتذكّر أيضا بتلك الأحلام الجميلة أو الأمل عام 2012، عندما كانت هناك انتخابات رئاسية حرّة في مصر، وكانت هناك أحلام جميلة بإمكانية الإصلاح والتغيير إلى الأحسن يوما ما.
للفصاحة والقدرة على الخطابة دور في إبراز مرشحين يمتلكونهما، وهناك مرشحون لم يستطيعوا التعبير عن توجهاتهم بالشكل المناسب، على الرغم من برامج وأفكار لديهم. ولا تزال الشعوب العربية تفضل الفصاحة والخطب العصماء والشعارات الرنانة على البرامج والتفاصيل الكثيرة، القائد الزعيم ذو الكاريزما الذي يدغدغ العواطف أفضل لدى الشعوب العربية ممن لديه برنامج واقعي للحكم. ولكن الانتخابات التونسية تتشابه كثيرا مع تجربة الانتخابات المصرية عام 2012 في وجود خطب ووعود بدون برامج حقيقية تتحدث عن "كيف يحدث ذلك". وهناك قضايا مهمة وحساسة عديدة لم تتم مناقشتها بموضوعية في البرامج المعلنة أو المناظرات التي تمت.
ظهر نفور قطاعات كثيرة في تونس من خطاب الكراهية والإقصاء الذي سلكته مرشحة تحمل 
أفكارا يمينية متطرّفة تدعو إلى إبادة كل من يختلف مع أفكارها، وسجنه وقمعه، خصوصا ممن ينتمي للتيارات الإسلامية. وشاهدنا سجن المرشح الرئاسي نبيل القروي بتهم تتعلق بالفساد وتبييض الأموال. وشكك بعضهم في توقيت هذه الخطوة، واعتبرها مخططا لاستبعاده وتشويهه، خصوصا بعد دخوله في إضراب عن الطعام، ومطالبته بحقه في الاقتراع، وكان فوزه مفاجئا بشكل كبير، على الرغم من كل ما يثار حوله من شائعات، ولكن يبدو أن الجمهور التونسي ملّ السياسيين والخطاب المكرر.
كنت أرى أن نزول حركة النهضة بمرشح لها يحسب خطأ كبيرا، وإن يندرج تحفظي تحت بند مصادرة الحقوق في الترشّح والممارسة السياسية، وأنا أحترم الشيخ عبد الفتاح مورو بشكل غير متناهٍ، وقابلته مراتٍ عديدة في مناسبات دولية عديدة، واستمتعت بأحاديثه وعقلانيته وخطابه الرائع، ولكن ما زلت أتخوّف من عدم زوال المرار الناتج عن أخطاء تجربة الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر وعدة دول عربية، كما أن الخوف الهستيري والفوبيا لا يزالان موجودين، ولكن كانت تلك النتيجة.
أما الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، فهو رجل مبادئ وكانت تجربته جيدة بشكل كبير في أثناء فترة رئاسته تونس. مضحكة كثيرا بعض كتابات محسوبة على السلطة في مصر اتهمته بأنه مرشح جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك قبل إعلان حركة النهضة عن نزول مرشحها، ولكن السلطة في مصر تعادي كل من هو خارج المعادلات والحسابات والتحالفات القديمة، تحالفات ومصالح ما قبل يناير 2011، خصوصا مع تصريحات المرزوقي ومواقفه المعارضة لكل ما حدث من انتهاكات في مصر بعد يوليو/ تموز 2013. ولكن بشكل عام تعتبر التجربة التونسية أكثر حظا ونضجا من التجربة المصرية، وإن كانت هناك تخوفات ومحاذير كثيرة، ولكن يكفي لجوؤهم للانتخابات والصندوق واحترامه، وليس العنف والدم والاشتباكات والانقلابات.
(2)
أشدتُ سابقا بالاتفاق بين قوى الثورة والمجلس العسكري في السودان، وكنت أرى أن الاتفاق فيه إيجابيات كثيرة، وأنه يعتبر خطوة عظيمة، على الرغم من الألغام الموجودة فيه، وعلى الرغم من التدخلات الإقليمية لإفشال الثورة السودانية، إلا أن هناك نضجا كبيرا في خطاب قوى التغيير السودانية وأدائها، والمتمنى أن تكون أكثر حظا من التجربة المصرية.
وجه لي أصدقاء مصريون من معسكر الثورة انتقاداتٍ عنيفة، واعتبروا تأييدي اتفاق قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري في السودان دعوة إلى الانبطاح والتخلي عن القصاص ومطالب ثورة يناير، واعتبروا ذلك الاتفاق خيانة للثورة السودانية، وأنه يجب القضاء على المجلس العسكري أولا، حتى لا تتكرر الأخطاء التي حدثت في الثورة المصرية، فالعسكر مخادعون دوما، لا يتحرّكون إلا للدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم الاقتصادية. واعتبر آخرون ذلك نضجا مني، لأن خطابي الجديد الذي يميل إلى التوافق والحلول الوسطى يختلف عن خطابي الراديكالي السابق الذي كنت أتبناه في مرحلة حكم حسني مبارك ثم المجلس العسكري ثم الرئيس الراحل محمد مرسي. وهناك من أشاد بتغريداتي، ولكن كان له لوم أن اتجاهي نحو أفكار المصالحة جاءت متأخرة، وأنه لو كان هذا الاتجاه موجودا عام 2011، بعد تنحّي حسني مبارك، لكان ذلك أفضل لمصر كثيرا من مطالب التطهير وعزل أنصار الحزب الوطني الذي كان في الحكم، ومعاداة كل من كانت له علاقة بنظام مبارك، ما أدّى إلى وثوب جماعة الإخوان المسلمين على السلطة.
بجانب طبعا الهجوم المتوقع والمعتاد من بعض أنصار جماعة الإخوان الذين كان هجومهم يرتكز على فكرة أن الجماعة تلقت هجوما عنيفا من القوى الثورية، عندما كانت تروّج الإصلاح التدريجي، وإمكانية الاتفاق مع المجلس العسكري في مصر في عامي 2011 و2012. وهذا حقيقي بالمناسبة بنسبة كبيرة، ولكن مع اختلاف السردية وزوايا النظر، فهل كانت ترتيبات الإخوان المسلمين واتفاقاتهم مع المجلس العسكري لصالح الجميع، وبعد توافق جميع قوى الثورة، أم كانت بحثا عن امتيازات ومصالح منفردة؟ وبالمثل، يمكن السؤال: هل كانت هرولة القوى المحسوبة على الليبرالية والمدنية واستقواؤها بالعسكر للصالح العام؟ هل تم استنفاد كل الحلول السياسية الأخرى قبل استدعاء العسكر؟
على الرغم من تشابه التجربة السودانية مع المصرية، وارتباطهما بروابط مشتركة عديدة، إلا أن 
هناك نقاطا كثيرة تميز الثورة السودانية عن سابقتها المصرية، فالقوى الممثلة للثورة السودانية كان لها تمثيل ووزن حقيقي في الشارع السوداني، كما أنها كانت تضم طوائف متنوعة من المجتمع السوداني، كتجمع المهنيين. كانت هذه القوى أكثر تنظيما وتمثيلا للمجتمع من المجموعات الثورية المصرية، كما أن القدرة على التفاوض والتنوع بين الأساليب الاحتجاجية، ثم التفاوضية، كان لها دور كبير في الوصول إلى ذلك الاتفاق.
أتذكر في تجربتنا المصرية كانت معظم المجموعات الثورية تتفنن وتبدع في التخوين وإلقاء التهم على كل من يلجأ إلى الحوار ووقف إراقة الدماء، أو يسعى إلى حل وسط، وكأن الثورة والاحتجاج كانا هدفا في حد ذاته، وليس وسيلة. وعلى الرغم من ذلك، أختلف مع الرأي القائل إن "الإخوان المسلمين" ظلموا وهوجموا بسبب مساعيهم إلى التفاوض والتوفيق. لا أظن ذلك صحيحا، فمعظم اجتماعات "الإخوان" وقراراتهم المشتركة مع المجلس العسكري في مصر عامي 2011 و2012 كانت بعيدة عن أي توافق مع باقي مكونات الثورة، بل كانت تتم بين الفصائل الإسلامية منفردة مع المجلس العسكري، بغرض إقصاء باقي مكونات الثورة. ولذلك كان الغضب يزداد عندما كان الجميع يفاجأ بخريطة طريق وإعلانات دستورية واتفاقات تم إعدادها في الغرف المغلقة بين المجلس العسكري والتيارات الإسلامية في ذلك الوقت، وهذا لا يمنع أيضا افتقار القوى الثورية، أو المكون الشبابي والمدني في الثورة المصرية، التنظيم وحسن التخطيط، على الرغم من أنهم من أطلقوا شرارة الثورة في 25 يناير/ كانون الثاني 2011.
(3)
وفي مجمل الأحوال، تعتبر التجربة التونسية أكثر حظا، على الرغم من نتيجة المرحلة الأولى التي ستجعل الإعادة بين اثنين لا يعتبران هما الأفضل لتونس، فقيس سعيد يستخدم خطابا شعبويا أقرب إلى اليمين، مناوئا للسياسة الرسمية والأحزاب التقليدية في تونس، ونبيل القروي حوله أقاويل كثيرة تتعلق بالفساد والذمة المالية. وعجيبة تلك الانتخابات التي استبعدت أسماءً كان متوقعا لها الكثير، مثل يوسف الشاهد وعبد الفتاح مورو، ولكن يكفي أنها انتخابات حرة ديمقراطية، تعبر عن رغبة الشعب التونسي واختياراته، أيا كانت نتائجها.
الوضع في السودان ربما يكون أفضل قليلا، بعد اتفاق قوى التغيير مع العسكر. ويمكن القول إن الاتفاق يعد انتصارا رمزيا، ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد مخاوف من خداع المجلس العسكري، أو تحول التجربة إلى ما هو أسوأ، خصوصا مع استمرار تدخلات قوى إقليمية كارهة للثورات، مثل مصر والسعودية والإمارات، وكذلك مع خطر وجود جماعات مسلحة في بعض المناطق، لديها نزعات انفصالية، ولكن كل ما نملكه هو تمني التوفيق للتجربتين، وأن تكونا أكثر حظا من التجربة المصرية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017