خمسون سنة من صناعة الإرهاب

خمسون سنة من صناعة الإرهاب

19 يناير 2020
+ الخط -
عادة ما تكون السجون مساحة حرة لتعلُّم أدوات الجريمة التي تفيد متعلمها فيما بعد، في ممارسة حياته الإجرامية واحتراف السرقة والقتل بشكل أوسع. وهذا ما صورته لنا السينما العربية في عدة أفلام روائية، كرّست جهدها نحو هذا الخطر المطبق الذي قد ينفجر في لحظة ما.

لكن مع بداية سبعينيات القرن الماضي أزداد نشاط "السجن" من تعليم الجريمة إلى تعليم "الإرهاب" وتوسعة الفكر المتشدد. فقدمت السجون عدة متشددين أسسوا فيما بعد حركات "جهادية" مارست نشاطها الإرهابي. ابتداءً من "التيار القطبي" ومؤسسه سيد قطب (1906 – 1966)، وصولاً إلى صالح سرية (1936 – 1976) وتأسيسه التنظيم الفني العسكري داخل الجيش المصري ومحاولته للانقلاب على أنور السادات عام (1976)، بالإضافة إلى عبد الله عزام وأيمن الظواهري اللذين مارسا نشاطهما الترويجي والتأسيسي لمنظماتهما داخل السجون في الأردن وفي مصر.

المتعقب لنشاطات الجماعات المسلحة والمتكفلة بنشر الفكر المتطرف و"الجهادي" سيلاحظ أن البيئة الحاضنة لتنامي أفكارها وتحشيد صفوفها هي السجن، وخصوصاً (الزنزانة الانفرادية)، واستخدامها لاستقطاب عناصر جديدة إلى صفوفها، واستغلال عزلة السجناء وأحياناً انتهاكات حقوق الإنسان من أجل بث التطرف في أذهانهم، ما حوّل العديد من السجون إلى مواطن لتفريخ الإرهابيين. أساليب أضحت تستوجب وعياً شاملاً بخطورتها، خاصة أنّها أصبحت تسهل للإرهابيين تنفيذ عملياتهم من خلف أسوار السجون.


سجن "بوكا" وصناعة داعش
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز"، تقريراً حمل سلسلة متعددة بعنوان "كيف ساعدت الولايات المتحدة داعش"، أشار إلى أنّ مقاتلي هذا التنظيم الذين ظهروا في العراق وسورية لا يشكلون قوة جديدة بعد أن أمضى كثير منهم سنوات في مراكز الاحتجاز التي أدارتها الولايات المتحدة وشركاؤها في العراق بعد عام 2003.

وأضاف التقرير أنّ زعيم التنظيم، أبا بكر البغدادي، قضى ما يقرب من خمس سنوات في سجن معسكر "بوكا" بجنوب العراق. وكان معظم كبار قادة "داعش" أيضاً من السجناء السابقين، وقد ذكر سجناء سابقون في شهاداتهم أنّ سجن "بوكا"، جنوبي العراق، كان "مدرسة تنظيم القاعدة"، حيث قدّم فيه "الجهاديون" دروساً في المتفجرات وتقنيات التفجير الانتحاري للسجناء الأصغر سنّاً، وتمكنوا من تجنيد أعداد من السجناء، وربّما كان ذلك يعود إلى ظروف الاحتجاز والقهر وروح الثأر أكثر من التجنيد الأيديولوجي والعقائدي.

"جهادية إسلامية" داخل سجون فرنسا
ذكرت وسائل إعلام فرنسية - حسب جريدة العرب اللندنية بتاريخ الاثنين 16/2/2016 - أن عنصراً جهادياً يُعرَف باسم "شريف"، يبلغ من العمر 32 عاماً، كان قد سُجن عام 2008، وكان يُعرَف لدى الشرطة منذ زمن بمشاركته في الأنشطة المسلحة التي تقوم بها جماعات "جهادية". كان "شريف"، الذي يُعرَف أيضاً بـ"أبي حسن"، عضواً في ما يُعرَف بـ"خلية بوت شومون" التي ساهمت في إرسال "جهاديين" للقتال مع تنظيم القاعدة في العراق بعد الاحتلال الأميركي البريطاني لها عام 2003. وكانت الشرطة قد ألقت القبض عليه عام 2005، وهو يهمّ بالصعود إلى متن طائرة متوجهة إلى سورية. وذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أنه في الفترة التي تلت سجنه بين يناير/ كانون الثاني 2005 وأكتوبر/ تشرين الأول 2006، كان على صلة بـ"جمال بيغال" الذي أصبح فيما بعد يشرف على نشاطه. وكان قد حُكم على بيغال بالسجن لمدّة عشر سنوات في فرنسا عام 2001، لمشاركته في التخطيط لتفجير السفارة الأميركية في باريس.

إنّ السقوط في فخ التطرف في السجن أمر خطير ووارد، ويحدث أن يُسجَن أناس بشكل فردي ويلتقوا في السجن مع متطرفين ينقلون إليهم أفكارهم ومعتقداتهم المتطرفة.

"إمارة" في السجن تنفذ هجمات خارجية!
كشفت قناة الجزيرة في 19/5/2015 عن إمارة جهادية داخل سجن رومية في لبنان، حيث يحتوي هو الآخر على مئات المعتقلين "الجهاديين"، الذين شكلوا غرفة عمليات لهم تحتوي على أجهزة تكنولوجية للاتصال، مكّنتهم من التواصل مع المكنى بـ"أبي بكر البغدادي"، زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، و"أبي محمد الجولاني"، زعيم تنظيم "جبهة النصرة"، وخططوا معهما لعمليات انتحارية واغتيالات تستهدف مناطق وشخصيات في كلّ من لبنان وسورية.

والمفارقة أنّ المبنى "باء"، في سجن رومية، سيطرت عليه هذه الجماعات ومنعت أيّ حارس من الاقتراب منه، وإلّا لقيَ حتفه مباشرة، وقد شكلوا فيه محاكمهم وأصدروا فيه أحكام الإعدام والغرامات والجلد. حيث أضحى المبنى "باء" حتى مطلع يناير 2015 إمارة داخل سجن رومية. وكانت الأجهزة الأمنية اللبنانية قد كشفت وجود ارتباط وتنسيق بين أحد الانتحاريَّين اللذين فجّرا نفسيهما في جبل محسن بطرابلس خلال شهر يناير/ كانون الثاني 2015، ومجموعة معتقلة في السجن المركزي، وكان فرع المعلومات قد وضع خطة لاقتحام السجن، بهدف إنهاء "إمارة المبنى باء".

انتهاك ومذلة.. عاملان لصناعة التطرف
تحول الجامعي المصري محمود شفيق إلى انتحاري بعد عام من خروجه من سجن الفيوم العمومي الذي قضى فيه 55 يوماً بتهمة "الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين"، لما تعرض له "شفيق" داخل السجن من ضرب وتعذيب، وبحسب "إسلام علي" الذي كان يرافقه في السجن والذي قال لـصحيفة "العربي الجديد"، وفق تحقيق صحافي نشرته الجريدة بعنوان "التحولات القاتلة... مصريون من السجون إلى الإرهاب":



"تعرض شفيق للذل في السجن، وكان الضابط بيعمل منه كرسي ويقعد على ظهره في الطابور"، مضيفاً أنه "في صباح كل يوم كان الأمناء يأخذون المحبوسين سياسياً ويُنيمونهم على بطونهم أرضاً، ويطلبون منهم أن يزحفوا لأكثر من 20 متراً، من دون وضع الأيدي على الأرض"، الأمر الذي يراه الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر وأحد المشاركين في مبادرة دار الإفتاء لـلجنة "تشريح عقل المتطرف"، أنه يؤدي بمثل هذا الشخص إلى أنه "عندما يخرج من السجن يتحول إلى أعمى، لا يرى أمامه سوى الانتقام، لأنه يرى نفسه ضعيفاً"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أنه يبحث عن طرف قوي، وهم الإرهابيون من وجهة نظره، فينضم إليهم برغبته، دون أن يبذلوا جهداً في إقناعه.

إلى أي تنظيم ستنتمي؟
في مقالة فريدة نشرتها صحيفة الخليج بتاريخ 12/5/2017 مع عبد الرحمن الزبيدي، وهو معتقل عراقي سابق في مديرية مكافحة الإرهاب بمدينة الكوت جنوبي العاصمة العراقية بغداد، وصف لـ"الخليج أونلاين" ظروف سجنه وصعوبتها، وتفكيره إثرها في الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة.

وبحسب الزبيدي، فإن من المثير بعد كل هذا التعذيب أن السجين يُسأل قُبيل الإفراج عنه في العراق: "إلى أي تنظيم إرهابي ستنتمي بعد خروجك لتنتقم من الضابط أو الجندي الفلاني أو من شيخ العشيرة الفلانية؟"، بحجة المزاح، ما يدفع الشباب التي لا عقول لهم إلى المحرقة التي تحصد العراقيين جميعاً.

النموذجان الألماني والبلجيكي يقدمان وجهتي نظر
أصبحت سجون أوروبا معقلاً للتطرف الإسلاموي، وخاصةً مع عودة 1500 من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من الشرق الأوسط ومواجهة الملاحقة القضائية، بحسب ما تحكيه أماندا إريكسون في مقال لها بصحيفة The Washington Post الأميركية، ويتضمن المقال نظرةً داخل زنزانات السجون في بلجيكا وألمانيا، اللتين تبنَّتا استراتيجياتٍ متباينة بشكلٍ حاد لمواجهة انتشار التطرف.

وأجاب المقال بأنَّ البلدان ليست لديها حلولٌ جاهزة، لذلك هي تخترع أساليب ومناهج جديدة للتعامل مع المشكلة في الوقت الحالي. تختلف الحلول بشكلٍ كبير من بلدٍ أو منطقة إلى أخرى في كثيرٍ من الأحيان.

فعلى سبيل المثال، طوَّرت بلجيكا برنامجاً يُعرف باسم "De Radix"، يعزل أكثر السجناء تطرفاً عن بقية السجناء الآخرين، ولا يسمح لهم إلا بالتواصل المحدود فيما بينهم فقط. لا يسعى نهج بلجيكا إلى "القضاء على التطرف" في حد ذاته، فهي تجادل بأنَّ السجون ليست مجهزةً فعلاً لتغيير أيديولوجية الفرد، ولا يمكنها إلا أن تأمل تثبيط العنف.

في المقابل، ترفض ألمانيا فكرة عزل السجناء الذين يتبنون أيديولوجياتٍ أصولية، وتختار بدلاً من ذلك برنامجاً مكثفاً للمراقبة والرصد والتدخل لمنع التطرف من الحدوث. ويقول المسؤولون في كلا البلدين إنَّهم لا يملكون حتى الآن بياناتٍ كافية لمعرفة أيٍّ من الأساليب تنجح حقاً.

قراءة متأخرة للوضع العراقي
بعدما أنتج سجن "بوكا"، جنوبي العراق، أشرس متشددي العالم، وهم داعش الذي كلّف المنطقة كثيراً، وهي لا تزال تحاول القضاء عليه أو تقزيمه بأضعف الإيمان، تفكر الحكومة العراقية ملياً في كيفية تأهيل السجناء من خلال دائرة الإصلاح في وزارة العدل. ولكن تبقى هذه المحاولات خجولة من حيث افتقارها إلى دراسة جدية عن طرق التجنيد التي تستخدمها "الجماعات المتشددة". لذا، شرعت الحكومة الآن بتوفير فرص لإعادة دمج السجناء في المجتمع لكي لا يشكلوا عبئاً عليه عند إطلاق سراحهم، وذلك من خلال الاستثمار في البرامج التي تسعى إلى التأثير بطريقة تفكيرهم وتغييرها جذرياً.

وشكّلت وزارة العدل، التي تشرف على جميع سجون العراق، لجان إرشاد للتعامل مع السجناء مهما كان نوع التهم الموجهة إليهم، من خلال فصول لمحو الأمية والتزام حقوق الإنسان ومحاضرات في الفكر الديني المعتدل والتدريب المهني للسجناء، في مجالات عدة كالنجارة والخياطة والحلاقة وإصلاح السيارات.

ولكن تبقى مسألة دمج السجناء معاً، وعدم التواصل مع المنظمات والدول في توحيد طرق  المعالجة وأساليبها، عائقاً كبيراً في تفهّم الأزمة التي تواجهها السجون العراقية، بعدما أودعت ما يقارب عشرة آلاف معتقل بتهم الإرهاب على مدى خمس سنوات مضت.