خليل العناني لـ"جيل": النخبة المصرية سارت بعكس إرادة الشباب

خليل العناني لـ"جيل": النخبة المصرية سارت بعكس إرادة الشباب

30 يوليو 2017
(ميدان التحرير في ثورة يناير 2011، تصوير: كيم بدوي)
+ الخط -

ثمة تفسيرات عديدة لهزيمة الثورات العربية التي تحولت إلى شتاء أمني، تقوده الأوليغاركية العسكرية، المتحالفة مع طبقة من المنتفعين سياسيًا واقتصاديًا؛ فأضحت الدولة بالنسبة لهم سلطة لتمثيل وإدارة مصالحهم الفئوية وإعادة إنتاج امتيازاتهم الخاصة التي تلاشت مع اندلاع شرارة الثورة عام 2011، لكنها عادت بممارساتها القمعية وانتقامها الأمني وتصفية قوى الثورة التي طالبت بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

في هذا الحوار، يتناول الدكتور خليل العناني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا، الأسباب المؤدية إلى انتكاسة ثورة مصر التي يعتبرها "مؤقتة"، ويشرح طبيعة التكوينات الحزبية في مصر وملابساتها التاريخية، التي تعكس في بنيتها انتهازية وسلطوية تجعلها أميل إلى النظام الحاكم، كرديف سياسي واجتماعي له، بينما تفقد صلاتها العضوية بالمجتمع وطبقاته، كما يعرّج على وضع الشباب وتصنيف مواقفهم خلال الثورة والثورة المضادة، ومدى صحة مقولة "شباب الثورة"، وهل ثمة تجانس بين الشباب ومواقفهم السياسية، يؤول بهم إلى اعتبارهم كتلة واحدة متطابقة؟




كيف ترى المسار الذي قطعته الثورة المصرية بعد مضي ست سنوات ومآلاته على وضع الشباب وتسييسه في ظل تراجع الزخم والسيولة الثورية، فضلًا عن التشويه والملاحقات الأمنية التي لحقت بهم؟
مسار الثورة المصرية منذ بدايته كان مسارًا معقدًا وملغمًا بالكثير من المشاكل والعقبات، ولكن السبب الرئيسي لفشل الثورة، والذي أراه فشلًا مؤقتًا على أي حال، يتمثل في تخبط وفشل النخب السياسية المدنية (إسلاميين وعلمانيين وليبراليين ويساريين وقوي ثورية) في إدارة وحل خلافاتهم السياسية من خلال الحوار، وقيام أحد أطرافها؛ أي القوى الليبرالية واليساريةـ باستدعاء العسكر للساحة السياسية؛ ما مهّد الطريق لانقلاب يوليو 2013. الثورة في مصر دارت حول نفسها دورة كاملة؛ فعادت ليس فقط لنقطة الصفر التي كانت أيام مبارك، وإنما لما دون الصفر؛ حيث تعيش البلاد تحت حكم طغمة عسكرية مهيمنة على الدولة والمجتمع والبشر. وما تفعله هذه الطغمة حاليًا هو نزع السياسة تمامًا عن المجتمع وتأديبه من خلال القمع والتسلط. ولكن ما لا تدركه هذه الطغمة أنها بذلك تخلق مجالًا موازيًا ليس للسياسة بالمعنى التقليدي، وإنما للثورة العنيفة أو الفوضى على المدى الطويل.


كيف يمكن توصيف موقع الشباب اليوم من الأحداث السياسية وتفاعلهم معها في ظل توالي الهزائم على الثورة والتشهير بهم؟
لا يمكن إطلاق وصف الشباب على فئة عمرية معينة والتحدث عنهم باعتبارهم كتلة واحدة متجانسة. فإذا كان المقصود هنا هو الشباب الثوري، الذي أطلق الثورة وساهم في إسقاط مبارك من خلال التعبئة والحشد؛ فالحقيقة أن هذا الشباب لم يعد أيضًا كتلة واحدة، وإنما منقسم على ذاته. قسم شارك في الانقلاب على الثورة وقام بالانضواء تحت جناح الثورة المضادة، وقسم أخر يبدو تائهًا ويدور حول نفسه. فهو من جهة ضد الوضع الراهن، ولكنه من جهة أخرى يرفض التعاون مع الفصائل الأخرى من أجل مواجهة هذا الوضع والتخلص منه، كما هي الحال مع بعض الشباب المنتمي لليسار، وقسم ثالث ترك السياسة وتفرغ لمشاكله الحياتية والشخصية. وبالتالي، فإن الكتلة الحرجة التي أطلقت شرارة الثورة خلال يناير وفبراير 2011 لم تعد موجودة بشكل متماسك. والوضع الراهن لا يسمح ببناء كتلة جديدة بها نفس درجة الوعي والالتزام الثوري الذي يمكنه إطلاق شرارة ثورة جديدة للأسف.


تمكنت السلطة عبر عقود طويلة من تخريب الأحزاب السياسية من دون أن ينفي ذلك تناقضاتها الداخلية التي ساهمت في تشتتها وانقساماتها وترهل دورها وغياب رؤية متماسكة ومرنة تجاه دورها النضالي، الذي يبدأ من توصيف طبيعة السلطة وتحديد آلية العمل ضدها واستهداف الجماهير المنحازة لها وتثقيفها وتعيين خطابها التعبوي.. إلى أي حد تتفق مع هذه الفرضية؟ ولماذا لم تتعاف من أعراضها المزمنة بعد الربيع العربي؟
لا توجد أحزاب بالمعنى الحقيقي للكلمة في العالم العربي. فالدولة العربية الحديثة بحكم تشكلها وبنيتها الراهنة ضد وجود أحزاب حقيقية أو وسائط سياسية يمكنها التنافس وتدوال السلطة. فهذه الدولة تم اختطافها منذ وُلدت من قبل نخب سياسية تحت شعارات ويافطات مختلفة؛ مرة باسم الدولة الوطنية، وأخرى باسم الدولة القومية، وثالثة باسم الدولة الإسلامية، والآن وصلنا إلى مرحلة الدولة-العصابة أو الدولة-القبيلة التي تهيمن عليها مجموعة من الأشخاص يتحكمون في مصائر المجتمع والبشر دون إرادة حقيقية لهؤلاء. أمر آخر مهم، وهو أنه على عكس نشأة الأحزاب في الغرب التي جاءت نتيجة لحالة من التدافع بين النبلاء والقصر الملكي في إنكلترا وفرنسا أواخر القرن الثامن عشر، وذلك قبل أن تدخل فئات جديدة للمجال السياسي أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور الحركات العمالية؛ فإن الأحزاب في العالم العربي تنشأ بقرار من الدولة ونخبتها وأجهزتها الأمنية وليس لحالة تدافع أو تعبير عن مصالح فئات معينة. ما لدينا في العالم العربي ليس أحزاب، وإنما "أكشاك" وذيول سياسية تابعة للسلطة بشكل أو بآخر.


تعاني التنظيمات السياسية من عدم مقدرتها على ترميم الفجوة الموجودة، ليس مع الأجيال الجديدة وحسب، لكن مع راهنيات الواقع السياسي الإقليمي والعالمي الجديد، ودمج تلك المتغيرات في أدبياتهم المتجمدة وتعديل مواقفهم الثابتة.. كيف ترى ذلك الأمر؟
كما قلت في إجابتي عن السؤال السابق؛ فإن معظم الأحزاب والتنظيمات السياسية في العالم العربي لم تنشأ نتيجة لحاجة مجتمعية أو لحالة تدافع مع السلطة، وإنما نشأت في حضن الدولة وأجهزتها الحاكمة وبقرار منها، وبالتالي فهي لا تمتلك شرعية حقيقية قد تمكنها من تمثيل المجتمع وأفراده. ومن المدهش أن كثيرًا من هذه الأحزاب يدافع عن مصالح السلطة في مواجهة المجتمع والشعب، وليس العكس؛ وذلك بهدف الحصول على مكاسب سياسية ومادية محدودة.


لماذا تخفق الثورة في بناء أحزاب جديدة وكوادر سياسية قادرة على تدشين حواضن اجتماعية لها ومتماسكة تؤمن بمفهوم واضح للعدالة الإجتماعية قائم على أسس لها شروطها التاريخية الواضحة؟
ليست وظيفة الثورات بناء أحزاب أو حركات سياسية؛ فالثورة هي عملية تغيير جذري تحدث بشكل تلقائي وطبيعة نتيجة لتراكمات من الغبن السياسي والفشل الاجتماعي والاقتصادي. الثورة كالمطر الذي يهبط فجأة فيصيب الأرض القاحلة والخصبة على السواء. وما لم تقم النخب الثورية باستغلال الثورة للتخلص من الوسائط القديمة وبناء وسائط وحركات سياسية جديدة وواعية؛ فأغلب الظن أنها ستفشل فشلًا ذريعًا، وهو ما حدث في الحالة المصرية. فالثورة، على زخمها وقوتها، لم تدفع بظهور نخب جديدة متماسكة، وتلك النخب الشبابية التي ظهرت كانت مشتتة ومنقسمة على ذاتها. هل تستمر في الشارع أم تتحول للعمل السياسي المؤطر تنظيميًا وحركيًا واستراتيجيًا. وفي المحصلة لا هي طالت هذا، ولا أنجزت ذاك.


برأيك، هل ثمة خطورة ما زال يشكلها شباب الثورة على النظام تجعله لا يكف عن تشويههم بالرغم من فقدانهم العمل التنظيمي والحزبي؟
إذا كنت تقصد النظام المصري الحالي، فإنه في حرب ضد الكل، سواء شباب أو جماعات، أو تنظيمات أو حركات سياسية حقيقة. وهذا جزء من عقيدة النظم السلطوية العسكرية التي تقوم على إغلاق المجال العام بقوة، وعدم إعطاء مساحة للتنفس لأية حركة أو فئة يمكنها، ولو من بعيد، أن تعيد تنظيم الصفوف وإحياء شرارة الثورة مجددًا. لذا فهو حريص على تشويه وتفكيك وتخوين كل من يطرح رؤية مخالفة لرؤيته السياسية.


لماذا دبت خصومة بين جيل الشباب والنخبة؟ وغاب التنسيق بينهم حول مسار الثورة والموقف من الفترة اللاحقة لها من حكم المجلس العسكري والصمت على الانتهاكات التي وقعت بحقهم؟
النخبة السياسية في مصر عفا عليها الزمن، وهي جزء أصيل من النظام القديم وبالتالي فكان من الطبيعي أن ينشأ الخلاف، وبعدها الصدام، بين شباب الثورة وبين رموز هذه النخبة السياسية. فضلًا عن ذلك؛ فإن هذه النخب تلعب سياسية بنفس طريقة الدولة القائمة على احتواء التغيير، ولم يكن لديها أية أجندة ثورية أو إصلاحية حقيقية. لذا كان منطقيًا أن تسير على عكس ما يريده الشباب، بل وصل الأمر أحيانًا بهذه النخب للتحالف مع العسكر، والتواطؤ والتآمر ضد شباب الثورة.


هل نسب الثورة لـ"جيل" معين يبدو متجانسًا من حيث تبنيه لأهدافها وشعاراتها وينفيه عن الأجيال الأكبر سنًا؟
هذا ظلم كبير. فالثورات ليست حكرًا على جيل أو فئة عمرية معينة. بل الواقع يقول إنه كان هناك شباب كثر، خاصة من الطبقة الوسطى، ضد الثورة، لأنها قد تساهم في تغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية المستقرة، خاصة أولئك العاملين في جهاز الدولة. كما أنه كانت هناك رموز ثورية يتجاوز عمرها الخمسين عامًا. صحيح أن الطليعة الثورة كانت في معظمها تنتمي لعمر الشباب، لكن الجسم الرئيسي للثورة كان يضم مختلف الفئات من شيوخ وشباب ورجال ونساء وحتى أطفال.


ما المهام الرئيسية التي تتطلبها الثورة اليوم في ظل تأزم الوضع السياسي ومصادرة المجال العام من أجل انفراجه تمكنهم من القدرة على بناء معارضة جادة ومنظمة للمطالبة بالحقوق المكتسبة من بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 وتنفيذ أهدافها وشعاراتها؟
الوضع الآن غير الوضع قبل ثورة يناير، وإنما أشد تعقيدًا وصعوبة، وبالتالي يتطلب رؤية واستراتيجية مختلفة. المسألة لا تقتصر على بناء معارضة جادة فقط، وإنما أيضًا تفكيك حالة الجمود واليأس التي تحيط بقطاعات شعبية كبيرة خاصة في ظل انعدام أفق للتغيير. وأي محاولة للتغيير لا تبدأ من الأسفل لن يُكتب لها النجاح. أعتقد أن ملف المعتقلين السياسيين وحقوق الإنسان في مصر من الملفات المهمة التي يمكن من خلالها إعادة بناء جسور بين القوى المختلفة خاصة الشباب. وهو يمثل أحد نقاط الضعف التي يمكن من خلالها مواجهة الوضع القائم وتغييره.


في ظل مايعانيه النظام المصري من أزمات تتحدد في تراجع شعبيته بالمقارنة بحجم التطلعات التي رافقت انتخاب عبد الفتاح السيسي والمتسبب فيها الأعباء الاقتصادية المتزايدة وضعف الأداء الأمني في سيناء والصعيد على إثر حوادث طائفية ومواجهات مع التنظيمات المسلحة، فضلًا عن خطاب سياسي متواضع .. هل تشكل تلك التناقضات عناصر استمرار وحشد تأييد السيسي؟
السيسي لم يعد في حاجة إلى تأييد شعبي كما كان عليه الوضع خلال 2013 و2014. فالرجل نجح في إعادة بناء نظام سلطوي قمعي من خلال القوة والعنف؛ وبالتالي فإن أية محاولة للخروج عليه ستواجه بالدم. صحيح أن هذا النظام مليء بالتناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن أي تحرك لإسقاطه، ما لم يأت من داخل النظام نفسه، سيكون محملًا بعواقب غير متوقعة. وهذه إحدى مفارقات الوضع الحالي في مصر. فالنظام رغم قوته القمعية الظاهرة، يبدو ضعيفًا من ناحية الشرعية والقبول، لكن في نفس الوقت فإن هذا النظام، أو على الأقل دائرة الحكم فيه، تبدو متماسكة، ولن يكون من السهل تفكيكها أو التخلص منها ما لم يحدث هذا من الداخل.


لماذا يتورط النظام في خصومة مع عدة أطراف رئيسة في المجتمع من دون رغبة في التراجع أو تحييد المواقف وترك هامش من المعارضة، مثل موقفه من الصحافيين ونقابة الأطباء، وحتى قضية تيران وصنافير التي كانت أول محاولة جادة لاسترداد المجال العام المصادر وتحريره من القبضة الأمنية؟
الأنظمة السلطوية تحتقر النخب بوجه عام، وترى أنها سبب الأزمات. لذا فإنها لا تعبأ بها كثيرًا أو بمعارضتها. والدليل على ذلك ما حدث في تيران وصنافير؛ فبالرغم من رفض الكثير من القوى السياسية للتنازل عن الجزيرتين، فإن النظام مضى في طريقه ولم يكترث لهذا الرفض. ولكن أيضًا هذه الأنظمة مصابة بداء "الغباء السياسي" الذي يؤدي في النهاية دومًا إلى سقوطها سقوطًا مدويًا كما حدث مع بن علي ومبارك والقذافي.

المساهمون