خلاف حلّاق وسعيد الفلسطيني .. رأيٌ آخر

خلاف حلّاق وسعيد الفلسطيني .. رأيٌ آخر

29 يونيو 2020

وائل حلاق وإدوارد سعيد

+ الخط -
"يوجد فلسطينيون كثيرون ليسوا تحت الاحتلال اليوم، ولكنهم ليسوا في معزلٍ عن خطر التطهير العرقي المحتمل في المستقبل. يبدو الأمر مرتبطاً (في تنفيذ التطهير) بالأولويات الإسرائيلية، وليس بتراتبية للفلسطينيين أكبر حظاً، وآخرين أقل حظاً". إيلان بابيه.
كثف أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، إيلان بابيه، الذي انتقل فيما بعد إلى المملكة المتحدة، مؤلفاته المناهضة للصهيونية. وركّزت كتبه على تاريخ إسرائيل الآخر، الذي يعكس حقيقة كونها مشروع إبادة، كما في كتاب "التطهير العرقي لفلسطين" وأخرى غيره، وكتاب مشترك مع نعومي شومسكي. وقد تصاعد لديه تبني الوصف التاريخي الطبيعي لصعود الحركة الصهيونية وتطبيقاتها على الأرض، وهو صاحب مقولة إن الصهيونية أشد خطراً من التشدّد الإسلامي، فاصطدم بعد ذلك بالمجتمع السياسي والأكاديمي الإسرائيلي، وطالبه رئيس جامعة حيفا بالاستقالة، انتقل بعدها إلى إنكلترا، بعد تلقيه تهديدات بالقتل.
مهمة تلك الإشارة من رئيس جامعة حيفا، بناء على دعوة إيلان إلى تصعيد المقاطعة ضد إسرائيل من الخارج، وخصوصا دعوته إلى مقاطعة الأنشطة الأكاديمية، لكون أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية شريك مباشر، في حصيلة الفكرة الصهيونية وتطبيقاتها، فردّ عليه رئيس الجامعة: عليك أن تستقيل من هذه الأكاديمية التي تدعو إلى مقاطعتها.
مدخل الأكاديمي وائل حلاق مهم للغاية في فهم عملية الاشتباك العميقة مع مواقف المؤسسات الأكاديمية، ليس في إسرائيل، وإنما في الغرب ذاته، عن تجربة إيلان بابيه الذي يشير إلى ما
 هو أوسع من الجامعات الإسرائيلية، وهو علاقة إسرائيل المشروع ليس بالكولونيالية فقط، ولكن أيضا بالحداثة المادية المنتجة لها، وعلاقة هذه الأكاديمية بالضرورة، ليس للتعميم على كل شخصياتها، ولا كل أقسامها، وإنما في الجوهر الغالب لحياتها ومخرجاتها الأكاديمية. وتشير هذه الزاوية إلى معضلةٍ مهمة، لفهم موقع دراسات النقد، داخل الأكاديمية الغربية التي لم تُغيّر من جوهر الفكرة النطاقية الشمولية للغرب الحديث، ونظرية التمييز التي تحدّد خريطتها، وهو الشيء ذاته هنا، فدراسات النقد في الدولة الإسرائيلية لم تغير من أن هذه الأكاديمية تخدم قوة الدولة ونظرية الإبادة التي فُعّلت في أكثر من دورة.
هذا الاستنساخ واضح المعالم، ومنها أن الدستور الأميركي لم يصنف الأميركيين شعباً، وكذلك فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين، فتحفّز إدوارد سعيد ووائل حلاق على ربط مراجعات النقد الفلسفية اليسارية، أو الأخلاقية، بقضية فلسطين، كنموذج حي فاعل، فالعالم يشهد، في كل يوم، مشهد صراع حي بين سكان الأرض الأصليين والمستوطنين الإسرائيليين. لا في المستوطنات فقط، ولكن في حركة تجريف الأراضي القديمة، وتصفية أي آثار طبيعية أو فنية أو دينية لها علاقة بسكان الأرض، فلنلاحظ هنا أن التهمة التي يتداولها الغرب، في توصيف الموقف في حاضر العالم الإسلامي وموقفه من "الآخر" كحالة تخلف، انتهت مزايدته إلى الدعم السياسي للدولة الدينية اليهودية، وإعلان إسرائيل على عقيدة دينية شوفينية عنصرية، وهو أمر ليس 
غريبا عن تسلسل الإبادة، الذي وثقه إيلان في رصد التهجير الممنهج، وإنما كان غائباً عن منصات الاستدلال، لنماذج التوحش ضد الأرض وإنسانها الأصلي، وتشريع استبداله بشعب مميز أفضل.
قلب الصورة مستمر بين من هو صاحب الأرض أو الحق في الثروة القومية والطبيعة والإحلال الجديد لنفوذ القوة القادمة من الشمال، فالمشروع الاحتلالي نموذج يُمثّل عقيدة "التقدّم" الحداثي، تحيط به جماعات متطرّفة تهدد وجوده، وهذه الجماعات هي الشعب الأصلي ذاته من أصحاب الأرض، فعرب الـ 48 ضمن خطة التطهير "للتقدّم".
ويرصد وائل حلاق الدراسات التي وثّقت أن إسرائيل من أبرز الدول المصدّرة للسلاح، في مناطق نزاع خطرة، حيث تحولت إلى أداة مباشرة لتفجير النزاعات وتمديدها، وأن روح التزاوج بين المؤسستين، الأكاديمية والعسكرية، تظهر جلياً في انتساب ذوي الرتب العسكرية، وتقديم محاضراتهم بالزي العسكري في الجامعات الإسرائيلية، وهو كذلك في جامعات أميركية، ولكن من دون بزة عسكرية أو مرتبة، ولكن الفكرة متحدة نحو نموذج الأكاديمي الغربي، مروج مبرّرات الإبادة.
فكرة الشعوب الدونية المقابلة لإسرائيل هي نفسها المؤصلة في جوهر مجتمع الشركات، والأكاديمية الغربية، وهي الجاذبية التي تستقطب المفكرين من الفلسفة الأخلاقية وغيرها، وتؤثر على عددٍ كبيرٍ منهم لصالح إدانة تل أبيب، فيشاركها سعيد وحلاق دعماً للحقيقة التاريخية، ففلسطين الوطن الأم لكليهما. ولكن حلاق يثابر في نقده سعيدا هنا، مشيراً إلى السطحية في نقده الذي يتجنب أصول تكوّن النطاق المركزي، والاكتفاء بنقد السلوك في حالات السياسات الأميركية، بدلاً من نقد التكوين الحداثي، وهذا يُطبق على الدولة الإسرائيلية أيضاً.
إذن هذا ليس خطأً في مضماره، لكن المشكلة التي قد يقع فيها حلاق أيضاً هي الخوف من أن 
تتداخل هذه الدلالات وكثافة عرضها، فتؤثر على تراتبية المعنى الأصلي، في توصيف عهد الحداثة المادية وتفكيكها، فتُحوّل فلسطين إلى الجوهر، وسياسة إسرائيل إلى العَرَض، وهذا خطأ، فالجوهر، حتى في المعنى الفلسفي الأشمل، يظل هو النطاق المركزي الذي صُنعت له نماذج عدة ولا تزال، ليس في فلسطين المحتلة، ولكن في كل عالم آخر. وهذا كله لا يُقلل من أهمية التدليل على النموذج الفلسطيني، ولكن ضمن سياق الدلائل العامة لمخرجات الحداثة، وهو ضرورة للمتلقي لسعيد وحلاق وغيرهما، ألا تتوه الفكرة الأصلية، ويعتبر المشروع الإسرائيلي سلوكا إجراميا، لا صناعة إبادية تناسلية.
وأمام ذلك، هناك مسؤولية كبرى على الباحثين العرب، في تحليل ظواهر الإبادة الأخرى، فلا يجوز طمرها، بل تدرس في الشرق دوافعها، وعلاقته بالمركز الغربي أو بالشرق ذاته، وحالة الاستقطاب الطائفي الذي حوّل التعايش بين الأديان والأعراق إلى صراع أقليات وغالبية، فكان المشهد السوري الذي نفذ نظامه نموذج إبادة استخدم هذه الأرضية، فكيف نفهم ذلك في كوارث الشرق، إنها مسؤولية تاريخية للفلسفة الأخلاقية.