18 سبتمبر 2024
خطبة وداع أوباما
أظهر أحدث استطلاع رأي، أجري في ألمانيا قبل أيام، أن 62% من الألمان الذين استهدفهم الاستطلاع يأسفون لأن القانون الأميركي لن يسمح للرئيس الأميركي، باراك أوباما، الترشح لولاية ثالثة. وتزامن الاستطلاع، الغريب إلى حد ما، لأنه أجري في دولة ديمقراطية (ألمانيا) لمعرفة رأي الناس في التمديد لرئيس دولة ديمقراطية أخرى (أميركا) مع زيارة "الوداع" التي قام بها أوباما لألمانيا بوصفه رئيساً.
فكما جرت العادة، يقوم الرؤساء الأميركيون، في نهاية ولايتهم الثانية، بزيارات يمكن أن توصف بزيارات "الوداع" لدولٍ صديقة لبلدانهم. وهكذا شاهدنا زيارة أوباما إلى أميركا الجنوبية، وقد بدأها بزيارته التاريخية لكوبا، على اعتبار أن عودة علاقات أميركا وتطبيعها مع هذه الجمهورية الشيوعية ستبقى من أهم النجاحات التي حققها أوباما طوال سنوات حكمه في ولايتين متتاليتين. وشاهدنا الرئيس الأميركي يختم زيارته للعالم العربي بزيارته العربية السعودية، ولقاء زعماء الدول الخليجية، وهو الذي كان قد افتتح ولايته الأولى عام 2009 بزيارة مصر وإلقاء خطابه التاريخي في جامعة القاهرة، ودعا فيه إلى فهم متبادل بين العالمين، الإسلامي والغربي.
ومع نشر هذا المقال، قد يكون أوباما في زيارة لليابان قادماً من أوروبا، ويجري الحديث، أنها ستشمل مدينة هيروشيما. وإذا ما تمت الزيارة، فستكون الأولى لرئيس أميركي، وهو في منصبه، إلى هذه المدينة اليابانية التي تعرّضت لهجوم نووي أميركي قبل 71 عاماً.
يريد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته في هذه الزيارات أن يعطي الانطباع بأنه كان رجل سلام وتوافق. عمل على سحب قوات بلاده من حرب أفغانستان والعراق، وسعى، ما أمكن، إلى تجنب فتح جبهات حروبٍ جديدة. أخمد فتيل الحرب التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع مع إيران في عهد سلفه جورج بوش. وتجنب، كما شرح ذلك في حواره مع مجلة "أتلانتيك" الوقوع في "فخ" التدخل البري في سورية، وطبّع علاقات بلاده مع كوبا بعد أكثر من نصف قرن من المقاطعة والحصار والتهديد بالحروب.
ولا شك في أن أوباما قارئ جيد للتاريخ، وبالتالي، انصب هاجسه دائماً على ما سيذكره التاريخ عن فترة حكمه التي امتدت ثماني سنوات. فهو أول رئيس أميركي أسود يدخل البيت الأبيض، وهو أول رئيس أميركي يحصل على جائزة نوبل للسلام، أسابيع بعد دخوله البيت الأبيض عام 2009.
تعتبر صورة "رجل السلام" الهاجس الأكبر الذي يحرّك أوباما اليوم، لكن هذه الصورة التي يريدها صاحبها أن تبقى ناصعةً جلية تخدشها مواقف كثيرة، لا يمكن أن ينساها التاريخ.
صحيح أن أوباما أنهى حروباً كانت قائمة في عهود سابقة، ورفض الدخول في حروبٍ جديدة، لكن ذلك لم يمنعه من قتل مئات بل آلاف الأبرياء في أفغانستان واليمن عبر الطائرات بدون طيار التي لا تقل تدميراً عن الحروب البرية.
وإذا كانت إدارة أوباما قد نجحت في العثور على مخبأ أسامة بن لادن وقتله، إلا أنه سيغادر
البيت الأبيض ويخلف وراءه عدواً أشرس من بن لادن. إنه أبو بكر البغدادي الذي أصبحت له دولة تمتد على أراضٍ شاسعة من العراق وسورية، و"خلافة" تمتد ولايتها من ليبيا غرباً إلى اليمن جنوباً وحتى باكستان شرقاً، و"ذئاباً" بشرية تزرع الموت في كل العالم.
ولا ننسى أن إدارة أوباما أيدت كل الحروب المدمرة التي شنتها وتشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية، وضحاياها بالآلاف، ولن تشفع لأوباما مواقفه المتأخرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي اكتشف أخيراً فقط أنه "متعجرف" و"مراوغ"، خيب آماله، على حد قوله لمجلة "أتلانتيك" في قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية!
وإذا كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد بدأ أول ولاية له بخطابه الذي وجهه إلى العالمين العربي والإسلامي من منصة جامعة القاهرة، وقال فيه "إن نظام الحكم الذي يسمع صوت الشعب، ويحترم حكم القانون وحقوق جميع البشر هو النظام الذي أؤمن به"، فإن موقف إدارته من "الربيع العربي" خيب آمال شعوبٍ عربيةٍ كثيرة، لأن ما ظل يحكم علاقة تلك الإدارة بأنظمة الدول العربية هي المصالح أولاً وأخيراً، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ التي عبر عنها خطاب القاهرة، والتي ستبقى تدرّس في تاريخ العلاقات الدولية، باعتبارها انتصاراً للواقعية السياسية على النيات الحسنة التي لا تصلح دائماً لأن تكون سياسة ناجحة، مهما كانت أهدافها نبيلة، وصادرة عن إرادة صادقة.
ربما يكون أوباما قد جاء إلى البيت الأبيض محملاً بآمال ومبادئ نبيلة ونيات طيبة كثيرة، لكنه سرعان ما اصطدم مع صخرة "الواقعية السياسية" التي حولت كل تلك "الأحلام" ذكرياتٍ جميلةً تصلح لآخر خطبة وداع، سيتحفنا بها أوباما، وهو الخطيب المفوّه، عندما يغادر البيت الأبيض بعد بضعة أشهر.
فكما جرت العادة، يقوم الرؤساء الأميركيون، في نهاية ولايتهم الثانية، بزيارات يمكن أن توصف بزيارات "الوداع" لدولٍ صديقة لبلدانهم. وهكذا شاهدنا زيارة أوباما إلى أميركا الجنوبية، وقد بدأها بزيارته التاريخية لكوبا، على اعتبار أن عودة علاقات أميركا وتطبيعها مع هذه الجمهورية الشيوعية ستبقى من أهم النجاحات التي حققها أوباما طوال سنوات حكمه في ولايتين متتاليتين. وشاهدنا الرئيس الأميركي يختم زيارته للعالم العربي بزيارته العربية السعودية، ولقاء زعماء الدول الخليجية، وهو الذي كان قد افتتح ولايته الأولى عام 2009 بزيارة مصر وإلقاء خطابه التاريخي في جامعة القاهرة، ودعا فيه إلى فهم متبادل بين العالمين، الإسلامي والغربي.
ومع نشر هذا المقال، قد يكون أوباما في زيارة لليابان قادماً من أوروبا، ويجري الحديث، أنها ستشمل مدينة هيروشيما. وإذا ما تمت الزيارة، فستكون الأولى لرئيس أميركي، وهو في منصبه، إلى هذه المدينة اليابانية التي تعرّضت لهجوم نووي أميركي قبل 71 عاماً.
يريد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته في هذه الزيارات أن يعطي الانطباع بأنه كان رجل سلام وتوافق. عمل على سحب قوات بلاده من حرب أفغانستان والعراق، وسعى، ما أمكن، إلى تجنب فتح جبهات حروبٍ جديدة. أخمد فتيل الحرب التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع مع إيران في عهد سلفه جورج بوش. وتجنب، كما شرح ذلك في حواره مع مجلة "أتلانتيك" الوقوع في "فخ" التدخل البري في سورية، وطبّع علاقات بلاده مع كوبا بعد أكثر من نصف قرن من المقاطعة والحصار والتهديد بالحروب.
ولا شك في أن أوباما قارئ جيد للتاريخ، وبالتالي، انصب هاجسه دائماً على ما سيذكره التاريخ عن فترة حكمه التي امتدت ثماني سنوات. فهو أول رئيس أميركي أسود يدخل البيت الأبيض، وهو أول رئيس أميركي يحصل على جائزة نوبل للسلام، أسابيع بعد دخوله البيت الأبيض عام 2009.
تعتبر صورة "رجل السلام" الهاجس الأكبر الذي يحرّك أوباما اليوم، لكن هذه الصورة التي يريدها صاحبها أن تبقى ناصعةً جلية تخدشها مواقف كثيرة، لا يمكن أن ينساها التاريخ.
صحيح أن أوباما أنهى حروباً كانت قائمة في عهود سابقة، ورفض الدخول في حروبٍ جديدة، لكن ذلك لم يمنعه من قتل مئات بل آلاف الأبرياء في أفغانستان واليمن عبر الطائرات بدون طيار التي لا تقل تدميراً عن الحروب البرية.
وإذا كانت إدارة أوباما قد نجحت في العثور على مخبأ أسامة بن لادن وقتله، إلا أنه سيغادر
ولا ننسى أن إدارة أوباما أيدت كل الحروب المدمرة التي شنتها وتشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية، وضحاياها بالآلاف، ولن تشفع لأوباما مواقفه المتأخرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي اكتشف أخيراً فقط أنه "متعجرف" و"مراوغ"، خيب آماله، على حد قوله لمجلة "أتلانتيك" في قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية!
وإذا كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد بدأ أول ولاية له بخطابه الذي وجهه إلى العالمين العربي والإسلامي من منصة جامعة القاهرة، وقال فيه "إن نظام الحكم الذي يسمع صوت الشعب، ويحترم حكم القانون وحقوق جميع البشر هو النظام الذي أؤمن به"، فإن موقف إدارته من "الربيع العربي" خيب آمال شعوبٍ عربيةٍ كثيرة، لأن ما ظل يحكم علاقة تلك الإدارة بأنظمة الدول العربية هي المصالح أولاً وأخيراً، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ التي عبر عنها خطاب القاهرة، والتي ستبقى تدرّس في تاريخ العلاقات الدولية، باعتبارها انتصاراً للواقعية السياسية على النيات الحسنة التي لا تصلح دائماً لأن تكون سياسة ناجحة، مهما كانت أهدافها نبيلة، وصادرة عن إرادة صادقة.
ربما يكون أوباما قد جاء إلى البيت الأبيض محملاً بآمال ومبادئ نبيلة ونيات طيبة كثيرة، لكنه سرعان ما اصطدم مع صخرة "الواقعية السياسية" التي حولت كل تلك "الأحلام" ذكرياتٍ جميلةً تصلح لآخر خطبة وداع، سيتحفنا بها أوباما، وهو الخطيب المفوّه، عندما يغادر البيت الأبيض بعد بضعة أشهر.