خطاب النكبة "نكبة"

خطاب النكبة "نكبة"

25 مايو 2016
+ الخط -
يُحيي الفلسطينيون، كعادتهم في كل سنة، ذكرى النكبة التي ما برحت حاضرةً في صميم وجودهم وأفئدتهم. وفي هذه الذكرى، يُستعاد الماضي بطريقةٍ توحي بأن لا شيء تغير منذ ثمانية وستين عاماً، فيجري الكلام على تواطؤ العرب والاستعمار البريطاني مع الصهيونية، وعلى حق العودة، كأننا ما زلنا في سنة 1949. وفي ذكرى النكبة عام 2016، تكرّرت الكلمات ذاتها والعبارات ذاتها، وعمّت الذكرى كل مكان فلسطيني، الأمر الذي برهن على الميراث المشترك للفلسطينيين، أينما كانوا. ويبدو هذا الأمر طبيعياً في حالة الاقتلاع والتهجير والمحو. فالرد على الاقتلاع والتهجير يكون بالثبات على حق العودة، والردّ على الطمس والمحو يكون بإحياء الذاكرة القريبة واستعادة الماضي وإعادة الحياة، ولو بالكلمات، إلى القرى الفلسطينية التي جُرفت، والتي ما عادت موجودةً اليوم إلا في سجلات السلب. لكن ذلك كله بات مكروراً ومستعادًا، وتزداد برودته مع توالي السنين.
أما الخطاب السياسي الفلسطيني الموجّه إلى العالم فما زال هو هو، أي خطاب الضحية. وخطاب الضحية ولغة المظلوم لا ينفعان في اختراق الوعي الغربي، لأن الضحية لدى النخب الثقافية والسياسية الغربية ليست إلا اليهود. وهذه الضحية، في المخيال الغربي، انتصرت مرتين: مرة في سنة 1948 فصار لها وطن، وخلّصت أوروبا من عبء المسألة اليهودية، ومرة في سنة 1967، فبرهنت أنها قلعةٌ متقدمةٌ للدفاع عن مصالح الغرب. وخطاب الضحية في أي حال سهل، ويمنح الضحية شعوراً بأنها على حق، وهذا أمر جدّي بالتأكيد، غير أن خطاب النكبة، في بعض صوره السياسية، "نكبة"؛ فبحجة الاحتجاج على النكبة، عاش جيل من الناس في إعتام شعوري. فكان بعض القوميين العرب الأوائل قد أخذوا العهد على أنفسهم بعدم الزواج أو الابتسام أو المرح، ولم يتم النكول عن ذلك العهد إلا بعد الوحدة المصرية – السورية في سنة 1958 حين اعتبرها هؤلاء بداية الطريق نحو التحرير والعودة. وخطاب النكبة كان، في بعض وجوهه، مشلّا للتفكير وللمعرفة، فالعرب، بحسب الخطاب اليومي، باعوا فلسطين، مع أن آلاف العرب تطوّعوا للقتال في فلسطين في سنة 1948، واستشهد منهم مئات. وبعض العرب، كما هو معروف، باع آلاف الدونمات من الأرض الفلسطينية، وهذا صحيح، لكن فلسطينيين كثيرين باعوا أرضاً كذلك. والعرب هم الذين خدعوا الفلسطينيين، حين قالوا لهم "أخرجوا من فلسطين موقتاً، وسنعيدكم إلى دياركم في ما بعد"، وتبين أن هذا الكلام كان شائعةً صدقها الفلسطينيون آنذاك، وما زال بعضهم يصدّقها حتى اليوم.
الذاكرة الموشومة بالألم، على أهميتها في صنع الجماعة الفلسطينية، لا تفيد وحدها في التحرّر الوطني، لأن التحرّر الوطني مشروع تحفيزي للنهضة والتقدّم، ولمقاومة الظلم، وللنضال من أجل العدالة. ومن المحال أن يصل مشروع التحرّر الوطني إلى خواتيمه بسلاح العائدين من أفغانستان أو البوسنة، أو على أيدي الذاهبين إلى العراق وسورية.
وللمفارقة، فإن الفلسطينيين تمكّنوا بعد النكبة، وعلى الرغم من الشتات والانكسار وفقدان الأرض، من بناء مؤسساتٍ سياسيةٍ كان لها شأن مهم جداً في المرحلة الوطنية اللاحقة، مثل حركة القوميين العرب (1956) وحركة فتح (1957) ثم الاتحاد العام لطلبة فلسطين (1959). فلماذا تمكّن الفلسطينيون، إذاً، من تأسيس منظماتٍ سياسيةٍ وفصائل عسكرية قبل نحو ستين عاماً، ولا يستطيعون اليوم تأسيس اتحاد شعبي واحد، يحاكي تجربة الاتحاد العام لطلبة فلسطين، أو الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين؟ ربما لأن الأهوال التي تحدّق بالفلسطينيين من كل صوبٍ، جعلتهم يتنازعون حتى على البدهيات، فصارت أحوالهم ترقيعاً وتقطيعاً على حد قول الشاعر إبراهيم بن أدهم:
نرقِّع دنيانا بتمزيق ديننا/ فلا ديننا يبقى ولا ما نرقِّعُ