خطابات مقدسة

خطابات مقدسة

23 فبراير 2019
كثرة خلف الشاشات قلة على الأرض (أنطوان أبو ديوان/Getty)
+ الخط -
في مواقع التواصل الاجتماعي، كثير من الكلام، وقليل من الفعل. على مدار الساعة، تجد أشخاصاً يبثون أفكارهم ويستعيدون أفكار غيرهم، فيتبنونها أو يعلقون عليها. يتشاركون معلومات وصوراً ومواد مختلفة. هم مرتاحون لهذا الوضع، ويبدون استعدادهم لخوض المعارك حتى. لكن، مع كلّ هذا الكلام الكثير جداً، قليل من الفعل. والدعوات إلى التحركات الميدانية التي تصدر من هذه الجهة أو تلك، وتتلقى سيلاً من الردود ونقرات الإعجاب والمشاركات، ثم تفشل في جمع بضعة أفراد على أرض الواقع، شاهدة على ذلك.

حتى الكلام نفسه يتدنى تدريجياً، ويتخذ مساراً هابطاً، ليغدو تكراراً وتفسيراً لتكرار، لكنّه مقدّم في قالب أدوات حديثة تتيح لمستخدمين كثر التحول إلى ببغاوات، تردد خطابات آمنت بها واعتبرتها مقدسة، وتقفل الباب أمام أيّ شكّ فيها أو نقاش حولها، وأمام أيّ أفكار نقيضة. ولا تشهد على هذا الهبوط المعارك الكلامية فحسب، بل تشويه الأدب العالمي أيضاً، إذ تنتشر اقتباسات منسوبة إلى كتّاب وشعراء ومؤلفين، فتلقى انتشاراً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، ويساهم ناشرها ومن يعيد مشاركتها، في استمرار الخطأ الأول، ولا يكلف أحد نفسه التدقيق فيها، بالرغم من أنّ في بعضها أخطاء لغوية وأخرى منطقية تنسف احتمال أصالتها، كما حين يُذكر اختراع حديث في اقتباس منسوب إلى كاتب سبق عصر ظهور الاختراع مثلاً.

لا شكّ أنّ مواقع التواصل الاجتماعي سمحت للجميع بالتعبير عن رأيه. هو ليس رأيه بالضرورة، بل الرأي الذي يتبناه أو ينساق إليه، وربما يحسب أنّه رأيه، ويكون صادقاً في ذلك. البعض يستخدم اسمه الحقيقي، ويدافع عن الرأي إلى أقصى حدّ، والبعض الآخر يستخدم اسماً مستعاراً، فينال سلطة أكبر وزخماً أشدّ في الذهاب إلى أبعد حدّ في الدفاع عن ذلك الرأي. لكنّ إغراء الكتابة من بُعد، ومن خلف شاشات صغيرة وكبيرة، يمكن أن يوصل المستخدم إلى التطرف في الرأي والمغالاة في الدفاع عن ذلك الرأي، ثم إلغاء كلّ ما يخالفه -أو ما يظنه يخالفه- من آراء. وبينما التعبير عن الرأي أساس، لا خلاف فيه، فإنّ التأنّي والتعقل مطلوبان دائماً، خصوصاً إذا ما خضنا أكثر في كيفية تشكل هذا الرأي، حتى نبدو متشابهين مهما تباينت آراؤنا.




يحضر، في تفسير هذه النقطة، اقتباس - أصيل تماماً- للسوسيولوجي اللبناني، عبد الغني عماد، في كتابه "سوسيولوجيا الثقافة" إذ يقول: "الكثير مما نعتبره سلوكاً فردياً وإرادياً ليس سوى حصيلة تفاعل سمات النسق الفردي مع سمات النسق الاجتماعي الذي يغذي سلوك الفرد، ويمنحه تقويماته الخاصة والمبررة لما يقوله أو يفعله أو لما لا يقوله أو لا يفعله".

المساهمون