خصومة حزبية في تونس: الثعالبي أم بورقيبة؟

خصومة حزبية في تونس: الثعالبي أم بورقيبة؟

29 سبتمبر 2015

عبد العزيز الثعالبي (1876-1944) والحبيب بورقيبة (1903-2000)

+ الخط -
هي في ظاهرها خصومة حول الذاكرة، واسترجاع الرأسمال التاريخي، والاستنجاد بالرمزيات واستحضار للأرواح التي ترك أصحابها بصماتهم في حقلي الفكر والسياسة، الناشبة هذه الأيام بين الحزبين الحليفين اللدودين الشريكين في السلطة في تونس، على مضض، الحزب اللائكي نداء تونس، والحزب الإسلامي حركة النهضة. 

خصومة برزت بصفة تبدو جانبية وهامشية، على الرغم من جدّيتها وأهميتها، بسبب تصريح رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، في برنامج إذاعي، أردفه بحديث لصحيفة عربية، مفاده بأن للإسلاميين والدستوريين في تونس جدّ مشترك، هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876 -1944) أحد رواد الحركة الإصلاحية ومؤسس الحركة الوطنية والحزب الحرّ الدستوري التونسي سنة 1920. ولم يتأخر كثيراً ردّ الأمين العام لحزب نداء تونس، محسن مرزوق، معتبراً أن لا جامع بين الإسلاميين والندائيين، وإن جد الندائيين هو الحبيب بورقيبة، وليس الثعالبي.
يحمل تصريح الغنوشي، في طياته، كثيراً من المكر السياسي والوعي باللحظة التاريخية وطبيعة التناقضات التي تشق المشهد السياسي التونسي عموماً، والحزب الحاكم الأغلبي خصوصاً، مما جعل رد مرزوق يأتي سريعاً بمكر ودهاء أكبر حدّة. فالغنوشي يعلم يقيناً أن "نداء تونس" يعيش على وقع صراعات عميقة ومدمرّة، تقف وراءها لوبيات مالية وإعلامية وأمنية ودولية فاعلة ومؤثرة، وحرب زعامة حامية الوطيس، كثيراً ما تطفو على السطح السياسي والإعلامي، تهدد كيان الحزب ومستقبله. وهذه الصراعات عادة ما تكون بين الدستوريين من ناحية واليساريين والنقابيين من ناحية أخرى. وهي صراعات تدور على خلفية السيطرة على الحزب المُقبل على إنجاز مؤتمره التأسيسي الذي تأخر كثيراً، نتيجة خوف كل طرف من الآخر، وخشيته من إمكانية سيطرته على الحزب، لأن ذلك يعني ضرورة الهيمنة على الحكومة والسلطة عموماً في المستقبل المنظور، بسبب شيخوخة قادتها الحاليين.
ولا يخفي النهضويون رغبتهم في صعود القوى الدستورية على حساب الرافد اليساري الذي ينعتونه بالاستئصالي، وبالعداء الأيديولوجي والتاريخي لوجودهم، ناهيك عن تجربتهم في الحكم. وبالتوازي مع ذلك، لا يرفع الدستوريون الفيتو في وجه الإسلاميين، فهم أكثر قبولا بهم، وأكبر استعدادا للتعاون والتحالف، وتولي مقاليد الدولة، بصفة مشتركة معهم.
وهذا الطرح الذي بشّر به أول رئيس وزراء في عهد بن علي، الهادي البكوش، سنة 2011،
والتقطه دستوريون مباشرة بعد تصريحات رئيس حركة النهضة، عندما أسسوا "منتدى العائلة الدستورية"، وتبنوا فكرة الجد المشترك، بصيغتها التي أعلنها الغنوشي، وكأن الأمر كان بسابق تنسيق واتفاق وإعداد.
الرسالة التي وجهها أمين عام حزب النداء، بالتنكر للزعيم عبد العزيز الثعالبي، أباً مؤسساً للندائيين، على الرغم من استثمار ذلك سياسياً، عند تأسيس الحزب، مثلما هو الشأن كذلك بالنسبة للزعيم الوطني المغدور به، صالح بن يوسف، والاقتصار على بورقيبة جدّاً لهم، متعددة الأهداف، منها ما هو موجه إلى النهضويين، وإلى الغنوشي تحديداً، من أن الاشتراك في السلطة لا يعدو أن يكون مؤقتاً، وهو من مقتضيات الإكراهات السياسية، ولعبة الأمم الكبرى، كما ارتضاها سفراؤها في تونس الذين لم يدّخروا جهداً لتحقيق التحالف بين "النهضة" و"نداء تونس".
الهدف الثاني من الإعلان عن انتماء الندائيين إلى بورقيبة فقط، فيه استحضار وتذكير بالعلاقة بين الإسلاميين والحكومات البورقيبية المتعاقبة التي اتسمت بالصراع الدموي بين الطرفين، وما صاحبه من اعتقالات ومحاكمات وسجون واتهامات متبادلة بالتآمر وعجز عن التعايش باستثناء العلاقة مع حكومة المرحوم محمد مزالي.
ولموقف أمين عام نداء تونس الذي تكلّم عن جد الندائيين، وليس الدستوريين، كما يرغب في ذلك الغنوشي، هدف آخر موجه إلى هياكل حزبه وقواعده، لسان حاله يقول إن بورقيبة أب الدستوريين واليساريين، لطبيعة تنشئته الغربية التي أنتجت رجلا لائكياً، يتغنّى بقيم الحداثة الأوربية، ويتخذ منها مثالاً يُحتذى، ويؤمن بمبادئ الدولة اليعقوبية الفرنسية، وذلك على خطى قادة حركة آفاق اليسارية الذين كانوا يرددون أنهم الأبناء غير الشرعيين لبورقيبة، بعد أن آمنوا بأفكاره من داخل سجونه ومعتقلاته التي نزعوا فيها أيديولوجيتهم الماركسية الطبقية، وتركوها هناك.
ولذلك، التحق آفاقيون كثيرون بالتجربة الدستورية في جيلها الثالث، وفي جبّتها التجمعية، إبّان حكم بن علي، لمّا سنحت الظروف السياسية لهم بذلك، ما مكّنهم من قيادة الدولة، ورسم سياساتها وخيارتها الكبرى، وتولي أعلى المناصب فيها طوال تلك الفترة.
يعلم اليسار الندائي جيداً أن التحاق كثيرين من عناصره الفاعلة بالتجمع الدستوري، في يوم ما، حقق له مزايا سياسية كثيرة، فهو غير قادر على التعبئة الشعبية التي طالما أمنها الدستوريون، لطول خبرتهم بالشارع التونسي، ولاحتكارهم ذلك الشارع في فترات الاستبداد الطويلة. كما يعلم أن القواعد الدستورية التي تم استنفارها في انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية هي من أمّن الفوز الكاسح بأغلبية مقاعد البرلمان وبكرسي الرئاسة، ومن ثمَّ تشكيل الحكومة التي نال فيها أغلب الحقائب يساريون، وليس دستوريين.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، فإن دفاع الأمين العام للنداء عن فكرة المؤتمر التوافقي لحزبه يهدف، أساساً، إلى قطع الطريق أمام النهضويين الذين لا يخفون رغبتهم في أن يكون ذلك المؤتمر انتخابياً، ما سيمكّن حلفاءهم المحتملين، أي الدستوريين، من السيطرة على الحزب الحاكم، نظراً لتشكيلهم الأغلبية في مقابل أقلية يسارية.
ومن حق الغنوشي البحث في دفاتر التاريخ وسجلاته، عن كل ما يخدم حركته ومستقبلها
السياسي في هذا الظرف السياسي الوطني والإقليمي المعقد والخطير، ديدنه في ذلك تأمين مسار سياسي خالٍ من الانزلاقات القاتلة، كما وقع له سنة 1991 مع بن علي، أو كما هو الشأن بالنسبة للحركات الإسلامية في تجارب مقارنة، في الجزائر ومصر والسودان واليمن وليبيا والعراق، حيث سطع نجمها وأفل بسرعة.
ومن حق أمين عام "نداء تونس" إعلان الولاء لبورقيبة، وممارسة الإقصاء الرمزي على من أقصاهم بورقيبة بنفسه سياسياً، والتمسح على قبره، وتوظيف التاريخ البورقيبي ومغازلة البورقيبيين، والتمسك بخياره، خدمة لمساره السياسي الجديد، وتثبيت وجوده على رأس حزبه، مقدمة لتولي منصب قيادي في رأس السلطة التنفيذية. إلا أنه من مقتضيات الصدق التاريخي عدم اقتصار الغنوشي على العموميات التاريخية، والإشارة إلى أن الثعالبي عانى مما يعرف في تاريخ تونس المعاصر بالدستوريين الجدد الذين قادهم بورقيبة والدكتور محمود الماطري، بعد أن تسللوا إلى حزبه، في لحظة كان فيها منفياً خارج تونس، من السلطة الاستعمارية بين 1923 و1937، وقادوا انشقاقا عميقاً ظهر بموجبه الحزب الدستوري الجديد سنة 1934. ولمّا عاد الثعالبي، وحاول رأب الصدع وإعادة توحيد الحزب الذي أسسه بنفسه، وذلك سنة 1937، تعرض إلى كل أصناف الإهانة التي وصلت إلى درجة ممارسة العنف ضده من أنصار بورقيبة، حتى أنه مات كمدا سنة 1944 بسبب ما لاقاه من تهميش ونكران لأعماله ونضالاته وأفكاره وكتاباته، ومن اعتقال ومحاكمات، وهو الذي نزل منزلة العظام في جامعة بغداد وفي القدس التي أعدّ مؤتمرا حولها سنة 1931، بالتعاون مع الحاج أمين الحسيني، وفي اليمن ومصر والهند.
ولم يكن الدستوريون يوماً كتلة واحدة متجانسة نقية، بل كانوا تيارات وكتلاً متصارعة ومتقاتلة، تصفي بعضها إلى درجة نكران الانتماء إلى ذلك الحزب، كما فعل صالح بن يوسف، بالانسلاخ من الحزب الدستوري الجديد، وتأسيسه حزب الأمانة العامة سنة 1955، وتكرر الأمر مع أحمد بن صالح الذي أسس حزب الوحدة الشعبية، وأحمد المستيري مؤسس حركة الاشتراكيين الديمقراطيين.
ومن المفارقات أن الشيخ الغنوشي فطن إلى أنه سليل شجرة عبد العزيز الثعالبي المباركة الإصلاحية والوطنية في سنّ متقدمة، وأن له بني عمومة هم الدستوريون، مثّلوا عدواً شرساً له ولحركته، ثلاثين سنة أو يزيد، وبعد أن استوفى مشروعه الفكري والسياسي المتعدد الكتابات الذي كان محكوماً "بالبراديقم الإخواني" نسبة للإخوان المسلمين وكبار منظّريهم، أمثال حسن البنا (1906- 1949) وأبو الأعلى المودودي (1903 – 1979).
وليس أمراً سهلاً تبني خلفية فكرية وأيديولوجية وأدوات فهم وتحليل أخرى، أسس لها الشيخ
 الثعالبي، وبالتوازي مع ما كان ينشره قادة "الإخوان" من آراء، وهو الذي كان معاصراً ومجايلاً لهم، ولم يتبنَّ أفكارهم، فذلك يقتضي إعادة النظر في الكتابات والمؤلفات التي أصدرها الغنوشي، وفق المقاربة الوطنية والإصلاحية للثعالبي، وهذا هو المعنى الحقيقي لتونسة الحركة الإسلامية التي كثيراً ما تحدّث عنها في المنابر الإعلامية. ولا يبدو أن الأمر على درجة التعقيد نفسها بالنسبة لأمين عام "نداء تونس"، في علاقته ببورقيبة والبورقيبية، فهو لم يضع ألبتّة كتبا ومؤلفات، أو نصوصا ومقالات حول بورقيبة وأفكاره وتجربته، وهو شاب يساري ماركسي يافع، لكي يراجعها ويعيد إنتاجها بخلفيته البورقيبية الجديدة، كما صرّح في أكثر من مناسبة، وهو كهل ندائي، فقد ركب موجة البورقيبية بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011، بوصفها موضة سياسية، لا أكثر. وهو لم يكن "مناضلا" حركياً في حزب بورقيبة إبّان فترة حكمه، ولم يشعر بأي فراغ بتنحيته من هرم السلطة من وزيره الأول، زين العابدين بن علي سنة 1987، وسجنه قسرياً في بيته في المنستير إلى حين وفاته سنة 2000، الأمر الذي ندد به كل من جورج عدة (القيادي الشيوعي السابق) ومحمد الصيّاح (الوزير ومدير الحزب الاشتراكي الدستوري سابقا) في رسالتين أودعتا في قصر قرطاج زمن بن علي، دون غيرهما. كما لم يُعرف عن الأمين العام لحزب نداء تونس أنه مشى في جنازة بورقيبة، وحزن لوفاته، أو أقام له المنتديات والمؤتمرات الفكرية، تقييماً أو تثمينا لتجربته، وهو الذي كان ناشطاً في بعض منظمات المجتمع المدني، ذات الطابع الحقوقي، فهذا أمر لم يقم به إلا المؤرخ عبد الجليل التميمي، ومؤسسته العلمية، وفي حياة بورقيبة.
إنها البراغماتية ولعبة المصالح السياسية، وهي وحدها التي تفسّر لنا هذه الصحوة، على أهمية كل من الثعالبي في تجربة النهضة وبورقيبة في تجربة "نداء تونس"، أما دون ذلك من اشتراك في الانتماء إلى شجرة النسب الدستورية، أو إلى الجينالوجيا البورقيبية، فهي مجرّد شعاراتٍ، تُشهر اليوم وستختفي، لمّا تزول أسباب ظهورها وعوامل استثمارها. ذلك أن الجد الحقيقي للشيخ الغنوشي هو حسن البنا، وأما الجد الذي تربى مرزوق في حضرة أفكاره الطبقية وجدليته التاريخية وتطبّع بها، فهو كارل ماركس، فلنترك الثعالبي وبورقيبة لمن آمن بأفكارهما، بعيداً عن الاستثمار السياسي ووعي اللحظة.