إلى متى تبقى أبوابه مفتوحة؟ (العربي الجديد)
في القرن الماضي، احتضنت أحياء عديدة من العاصمة الفرنسية باريس أبناء الجالية العربية. لكن الأمر اختلف اليوم. في الدائرة الثالثة عشرة وتلك الحادية عشرة مثلاً، تمدّدت الجالية الصينية واشترت معظم متاجرهما، فيما اضطر العرب الذين كانوا يأهلونهما على مدى عقود، إلى تركهما واللجوء إلى الضواحي.
أما "باربيس" الحيّ العربي بامتياز في المقاطعة الثامنة عشرة، فهو لم يَعُد عربياً كما كان حين تدفّق إليه في خمسينيات القرن الماضي مهاجرون وافدون من الجزائر والمغرب وتونس، قبل أن ينضم إليهم في الثمانينيات مهاجرون أفارقة.
علي أفيلال، حلاّق وروائي مغربي مقيم هنا، يتحدّث عن بلوغه باريس في السبعينيات. يقول: "لم يكن لديّ إلا عنوان واحد: حيّ باربيس. قصدته، وعلى الفور عثرت على شغل في الحلاقة وعلى مسكن مع عمال مغاربيين". ويغوص في الذكريات. هو ليس استثناءً، فكل الذين تلتقيهم في الحيّ، لا سيما المتقدمين في السن، لهم ذكرياتهم وحزنهم على ما آلت إليه أمور الحيّ اليوم.
من جهته، يسكن المهاجر الأحمدي الحيّ منذ بداية السبعينيات. يصفه بأنه حيّ شعبي هادر، "عشت فيه كل النضالات العمالية. فيه، تأسس اتحاد العمال العرب والاتحادات العمالية المغاربية. وفيه أيضاً عرفت النضال من أجل فلسطين، إذ منه كانت تنطلق التظاهرات المؤدية للشعب الفلسطيني. وليس غريباً أن تكون التظاهرات قد انطلقت منه في الصيف الماضي، تضامناً مع فلسطينيي غزة في أثناء المحرقة الإسرائيلية الأخيرة". ويشير إلى أنهم في الأيام الغابرة، كانوا يوزعون مجلة "فلسطين الثورة" ومنشورات أخرى "ونجمع التبرعات لدعم الشعب الفلسطيني. وفي هذا الحيّ أيضاً، كانت كل جالية تنتقد استبداد حكامها". يضيف أن "الحيّ كان يعج بمقارّ نقابية وسياسية وثقافية وبمكتبات عربية وإسلامية، اختفت تقريباً".
اقرأ أيضاً: "شوربة للجميع" في باريس
إلى ذلك، كان هذا الحيّ يُعَدّ ممراً إلزامياً لكل عربي أفريقي يصل إلى باريس. وفي حين كان بعضهم يصل إليه ويستقر فيه، كان آخرون يعتمدونه كمحطة يرتاحون فيها لبعض الوقت، وحين يعثرون على عمل في مكان آخر يغادرون. أما الأسواق، فكانت ضرورية ولا غنى عنها.
بدأت الأحوال تتراجع مع تشييد مقرّ كبير للشرطة، بهدف مكافحة الاتجار بالمخدرات ووضع حدّ لما يسمّى "سوق اللصوص". وشيئاً فشيئاً، راح الحيّ يفرغ من متاجره التي كانت في حدود 350 متجراً. هو كان يُعرَف بتجارة الجملة، قبل أن يوضع حدّ لها. وقد أصبحت المتاجر اليوم بيد الصينيين والآسيويين، في حين ارتفعت بدلات الإيجار وأسعار العقارات.
لم يتبقّ من الحضور العربي تقريباً، إلا السوق الشعبي الذي يستقبل زبائنه كلّ أربعاء وسبت. وفي نهاية الأسبوع، يتدفق الناس إليه بحثاً عن المنتجات المستوردة من أفريقيا والمغرب العربي.
ويُصار إلى "تحديث" الحيّ، ليكون بمستوى الأحياء والدوائر الباريسية الأخرى ويتحوّل إلى محطة جذب. وبهدف ذلك، أعيد افتتاح سينما الأقصر، وفُتح مقهى جديد تحت اسم "مقهى باربيس"، بمواصفات حديثة، في حين نُصِبَت كاميرات مراقبة في كل مكان.
يُخبر الأحمدي أنه دخل في يوم إلى المقهى حاملاً كيساً، ففتشوه. وفي نظرة سريعة إلى مرتادي المقهى، نلاحظ أن لا علاقة لهؤلاء بسكان الحيّ السابقين من عرب وأفارقة. هم مجموعة من الذين يطلق عليهم لقب "بوبوس" أي البورجوازيين البوهيميين الذين يتمددون في باريس وضواحيها. وتُعَدّ مونتروي في الضاحية الباريسية مقراً لهم. هم يشكّلون شريحة تصبّ أصواتها عادة لصالح اليسار، ويحاضرون بالمساواة في حين أنهم لا يختلطون بشرائح المجتمع الأخرى.
ويُطرح سؤال حول ما تبقى لفقراء باربيس، ومن هم الذين يقصدون المنطقة للتبضع بأسعار زهيدة. باستثناء سوق الأربعاء والسبت وبعض المتاجر العربية، التي ما زالت صامدة، يفتح متجر "تاتي" الشهير أبوابه. هو مخصّص للثياب رخيصة الثمن، لكن أحداً لا يعلم إلى متى تبقى أبوابه مفتوحة، هو الذي يعرف ظروفاً داخلية مزعزعة.
في الحيّ كشك للصحف يديره شاب مغربي. هو يُعَدّ من أنشط الأكشاك في بيع الصحف العربية في العاصمة. بالقرب منه، يقف عجوز جزائري. يقول: "اكتب أن منطقة باربيس سادت ثم بادت!".
اقرأ أيضاً: المتاجر العربيّة في فرنسا تحتضر