حين تهبك اللغة عيوناً.. أشكال شعرية مستقبلية

حين تهبك اللغة عيوناً.. أشكال شعرية مستقبلية

28 نوفمبر 2015
(كاندنسكي/ روسيا)
+ الخط -

هل من الممكن ترجمة الشعر؟ ألا يوجد مترجم في لحظة ما من عمله، لم يكن لديه تصور بأنه يهرّب من بين يديه ذلك الشيء الذي يبدو له في تلك اللحظة بالتحديد هو الأكثر قيمة فيما كان يحاول إعادة خلقه.

ميزةٌ لوصف ما، أو موسيقيةُ كلمة ما، شيء تافه في مظهره لكنه بلا ريب أثار عواطف الشاعر واستولى عليه وهو الآن يحرك عواطفه هو الآخر أيضاً. هل حقاً يجب أن نضحي بهذه الهدية؟ هل يمكن أن نقبل بمثل هذه التضحية؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكننا أن نواصل التفكير في جدوى الحديث عن الترجمة؟

ورغم ذلك بمجرد أن يجرب مترجم الشعر هذا الإخفاق يحس مجدداً الرغبة الشديدة في الترجمة. لماذا؟ أولا وقبل كل شيء لأن التجربة التي انتهى للتو من معايشتها علمته بشكل محكم ومباشر - ما دام يحدث في التطور ذاته لعمله - أن الأشياء الأساسية للطبيعة أو للوجود يتم تلقيها في لغة أخرى بواسطة مفاهيم مختلفة عن مفاهيمه بسبب صيغة �الاقتراب من الأشياء وتمفصلها فيما بينها وإنتاجها للمعنى، وكل ذلك جعله يستوعب بشكل أفضل أن خطاب المفاهيم لا يتعلق فقط بمجرد كلمات، وهو ما يدفعه أكثر من ذلك إلى الشعر.

إذن فهذه هي بالتحديد ذكرى ما ينضاف إلى الواقع في شأن تلقيه بواسطة المفاهيم، بالإضافة إلى كونه رغبة في اللقاء مع هذا الشيء الإضافي عبر شكل مختلف من القول.
إيف بونفوا

وإذا لم يكن الأمر حاصلاً حين شرع المترجم في هذا العمل، فسيصير هذا الأخير شاعراً بينما هو ينجزه منذ الآن لن يتطلّع فقط إلى ترجمة عمل محدد بل باكتشافه في جماع لغته الخاصة وفي كلامه، تلك الشبكة من الدلالات التي تخفى لمعان الحياة والطبيعة سيرغب في أن يتعمّق في أشكال النظر وعدم النظر تلك وأن تهبه اللغة عيوناً.

لكن لماذا إذن يلتفت إلى الشاعر الذي كان يترجمه، لماذا لا يهجره باتجاه نصّه لكي يستطيع أن ينشغل أكثر بتلك المهمة الجديدة والصعبة جداً؟ لأنه الآن إذن يعرف كيف يثمن عالياً أن ذلك الشاعر كان له في لغته الخاصة مكانته الخاصة أو حقبته الخاصة.

وهو بالضبط مشروع تجديد اللغة ذاته الذي يأخذه الآن على عاتقه، وكل ذلك يدفعه إلى التفكير أن ذلك الصديق البعيد يمكن أن يحدثه عن تجربته الشخصية وإن كان هو غير قادر على أن يترجم بشكل كامل ما يقال له هكذا، الشاعر الآخر سيقوده، منه سيتعلم مثلاً أن يكتشف في وقائع معينة أن الآخر كان له الحظ في أن يحيا بالتمام والكمال فعاليات رمزية محددة يحاول الفكر عادة أن يخفيها.

ويمكن أن يتملك كشيء شخصي استعادة العوائق والمآزق بين مستويات الكلام، ما بين الأحلام والبصيرة والتي وجد هذا الآخر نفسه معرضا لها وكذلك الأمر بالنسبة لإخفاقاته أو لأفراحه. كل ذلك سوف يسمح له بأن يواجه بشكل أفضل المخاطر - الأوهام واليوتوبيات والإحباطات - الملازمة للإبداع الشعري.

باختصار ما كان للوهلة الأولى مجرد قراءة لنص ومحاولة نقل دلالاته - وهو مقصد، للأسف، يبدو كافياً حتى بالنسبة للفلاسفة الذين يشتغلون فكريا حول الترجمة - يتحوّل إلى استماع لشخص آخر والمساهمة معه وإنجاز بحث مشترك.

العمل الأصلي ينصح المترجم في علاقته بلغته الخاصة، يقترح عليه أشكالاً للنظر وللإحساس، ولِمَ لا يُمكن للمترجم حتى من خلال ما يمضي مكتشفاً له أن ينتقد ما كتبه المؤلف الأصلي، وأن يناقش مقترحاته ويعدل صوره مضيفا بمشروعية كاملة الدقة والوضوح واللون لمقاطع محددة من النص.

تبادلٌ، هذا ما يمكن أن يكونه مستقبل الترجمة، وليس مشروع نقلٍ بسيطٍ كلمةً كلمةً، معتبراً النص شيئاً لا يمكن لمسه البتة وأنه يأتي ناجزاً - فيحكم عليه بسبب ذلك وبلا عفو بالماضي- ويُصْمِتُ صوتاً، بل هو استعادةٌ لتوقعاته تحت تأثيرات مستقبل ما.

ولماذا، إن كان ما يزال حياً وقادراً، إذن أن يستمع إلى ما سيقوله له مترجمه، الشاعرُ المُترجَم لن يقبل بسرور أن يرى ذاته محروماً من أي جزء صغير من كلامِه مؤبِّداً بهذا الشكلِ حنينَه الأعز؟

الترجمة يمكن أن تكون فقداناً للشعر، وخطراً على فكرة الشعر، و لكنها في الآن ذاته تمتلك غنى أن تكونَ ما يُقوِّي الحاجة إليه ويذكرَ بحقِّه في الوجود وقيمته المُخلِّصَة في عالم أصبح فيه الخطاب الاصطلاحي يهدد كل مرة بشكل أكبر بإغراق كل شيء، هكذا تغدو الترجمة أكثر من نص جديد، إنها مكان للتلاقي و علامة طريق.

أعتقد أننا في المستقبل سنشهد علاقة وثيقة بشكل أكبر بين الحاجة إلى الشعر والحاجة إلى ترجمته، بأعمال ترجمة ستكون قصائد في ذاتها ويمكنها أن تتخذ أيضا أشكالا بَعْدُ اليوم مازال من الصَّعب أن يتمَّ تخيُّلُها.


* Yves Bonnefoy إيف بونفوا: شاعر وناقد ومترجم  فرنسي (1923)، من روّاد شعراء فرنسا في القرن العشرين. وضع عدداً من الدراسات في تاريخ الفن، إضافة إلى الترجمات الأدبية. من مجموعاته الشعرية "قول في عازف البيانو" و"ضد أفلاطون" و"حجر مكتوب" و"في خديعة العتبة".

ترجمة: خالد الريسوني


اقرأي أيضاً: مقاعد هجرها النقاد

دلالات

المساهمون