حين تنتصر تونس مجدداً
بعد سباق محموم نحو الكرسي الوثير في قرطاج، انتخب التونسيون رئيسهم الجديد، وسط مناخ انتخابي، اتسم في مجمله بالنزاهة والشفافية. وجاءت الانتخابات، بعد أن مرّت على أيقونة "الربيع العربي" ثلاث سنوات ونيف، حملت معها حلم الانعتاق من واقع القهر والبؤس في تونس، إذ صاغ الشعب، بدماء شيوخه وشبابه، صفحة جديدة من تاريخ تونس الحديث.
يبقى السؤال، اليوم، هو أي مستقبل ينتظر الثورة في ظل أوضاع إقليمية ملتهبة، وفي خضم أوضاع اقتصادية، أمنية، واجتماعية معقدة، تعيشها تونس، والتي أثرت سلباً على المسار الديمقراطي، وألهبت جذوة اليأس في نفوس التونسيين؟
استطاعت تونس، تحقيق خريطة الطريق التي راهنت عليها "القصبة 2"، وكان الشباب الحاضر الأبرز فيها، فتمّ إنشاء دستور حظي بإجماع نواب المجلس الوطني التأسيسي، وتمّ إنشاء قانون للعدالة الانتقالية، ومؤسسات دستورية لحماية مكتسبات الثورة. كذلك نجحت بلادنا في انتخاب رئيس جمهورية انتخاباً مباشراً، وبذلك، يكون مسار البناء رهين اختيارات المجتمع، بصوته الانتخابي، وعمله المدني، وإبداعه الثقافي، والفني، كما إنتاجه العلمي والمعرفي.
ولكن، في الوقت نفسه، لن تكون المرحلة السياسية المقبلة سهلة، بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها، خصوصاً في الملف الاقتصادي، وكذا الملف الأمني، وفي مقدمته موضوع الإرهاب، وتداعياته الدراماتيكية، على الاستقرار السياسي المنشود. تستدعي هذه الملفات الشائكة وعياً عميقاً، ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب، وتستخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة، ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت الحكومة المقبلة أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة.
كما أنّ رئيس البلاد المنتخَب مطالب، بدوره، بالانحياز إلى الفقراء والمعدومين، وتعزيز قيم العمل والعدالة الاجتماعية، وتوفير فرص العمل للعاطلين، وأن يعمل، أولاً، وقبل كل شيء، على استعادة وحدة الشعب، والتصرّف بوصفه رئيساً لكل التونسيين، وليس لناخبيه فحسب، وأن يتحرّر، قدر الإمكان، من الأجندات الحزبية الضيّقة، والخروج من ضيق الخطاب الانتخابي، إلى رحابة الخطاب الوطني الجامع.
تبدو تونس، اليوم، في حاجة إلى تكاتف مكونات المجتمع المدني كافة، وكل القوى السياسية، لتثبيت أركان الجمهورية، ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح يجنب البلاد والعباد مستنقعات الفتن، والإثارة المسمومة، والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا جميعاً، هبّة وعي، تكون سداً منيعاً أمام كل المخاطر التي تهدّدنا، وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة، لما يجري في العراق وسورية وليبيا.
تونس، اليوم، دولة ذات سلطة ومؤسسات، وهي أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية، والواجب على السياسيين التونسيين، وضع الرؤى المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها، تطبيقاً لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة، والسلوك الحضاري القويم.
لقد استكمل المسار الانتقالي دورته ببراعة واقتدار، وخرجت تونس من طور "المؤقت"، إلى مرحلة المؤسساتية الدائمة، ما يحدونا الأمل في بناء ديمقراطيتنا واستدامتها.