حين تصبح الثقافة مناخاً نسقياً ضارّاً

حين تصبح الثقافة مناخاً نسقياً ضارّاً

09 يناير 2016
(من معرض "المقامة 2014"، عبد القادري/ لبنان)
+ الخط -

قد لا تستوي خلاصة شعرية أو نثرية ما، لكاتب أو شاعر عربي "كبير"، إذ ما بدت دائماً كمبدأ تعريفي وظلّت كذلك، علامة على الطبيعة النسقية والقرابية لتعويم ذلك الشاعر وتكريسه فحسب؛ بل قد تظل كذلك هوية أخرى لانحياز تضخّهُ تلك الخلاصة حيال ذلك الشاعر بين المشايعين له والأتباع.

هكذا، يمكن لمقطع شعري أو مقولة ما، تُؤْثَر عن شاعر أو كاتب معاصر، أن تلخّص نموذجاً تعريفياً يجعل ممن يلهج به في محافل التسطيح الثقافي "مثقفاً"، أما من ينتجه فيكون، نتيجة التمثل المستمر لذلك المقطع في بيئة حكائية ترجيعية في الذائقة العامة للناس، وبفعل ممارسة إعلامية تشتغل عليها خطابات موجهة ومنحازة في الصحافة الثقافية، رمزاً وأيقونة لمرحلة ما من مراحل الإبداع الأدبي.

وإذا ما عطفنا ذلك على مراكز معيّنة للثقافة العربية الحديثة، ستبدو تلك الممارسة الثقافية كما لو أنها تشتغل باستمرار على تعويم رموزها وتطويبهم من خلال ترديد ونشر تلك الخلاصات المبسترة بما يشكّل انحيازاً من الأتباع يكون له أثر السحر في التأثير على محيط الثقافة العربية الواسع جداً.

في تأطير كهذا لعلامات اشتغال ظاهرة ثقافية ما، لن تبدو الثقافة إلا مناخاً نسقياً ضارّاً، وتفقد أهم صفاتها المتمثّلة في تعدّد معطياتها الدائمة والمتحوّلة، وقدرتها المستمرة على الاختراق، فقط بمؤشر الإبداع، في فضاء متعدد الوجهة والمكان بالضرورة.

ولعل هذا ما سيردّنا إلى ملاحظة مهمة للمفكر المغربي محمد عابد الجابري في أن الأيدولوجيا العربية بمختلف تياراتها التقليدية والحداثية هي من حيث آليات إنتاج المحتوى، ليست إلا ذات طبيعة تقليدية واحدة تمثّل هوية وحقيقة اشتغال ذلك الخطاب الثقافي العربي.

يمكننا القول، وفقاً لتوصيف الجابري إن الخلاصة والانحياز قد يشكّلان استمراراً معاصراً لطريقة اختيارات الثقافة التاريخية العربية القديمة في بعض أنماط كتابة الشعر عرف بـ "الاحتذاء"؛ والذي ظلّ مفهوماً سلفياً من معايير الإبداع الشعري في تلك الثقافة، ولم يفلت منه إلا شعراء حقيقيون.

هذا الاحتذاء هو أيضاً ما أثار استغراب المفكر المغربي الآخر عبد الله العروي في كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، عندما تعجّب من هيمنته السلفية على ذائقة كثير من شعراء الأندلس الذين عاشوا في حياة طبيعية خلابة لم تسحرهم خضرتها وحدائقها، كما سحرتهم الصحراء والخيام في حياة عربية قديمة لم يختبروا هويتها إلا عبر ذلك الاحتذاء فحسب، فأهدروا ممكنات غنية للتعبير عن حياتهم الخلابة في الأندلس كان يمكن أن تشكّل إضافة حية.

هكذا حين يتم تسويق خلاصات أيقونية للنصوص قد يتشكّل على هامشها انحياز ما، بفعل ذلك التسويق ويؤسّس لاستتباع ربما يمنع الذائقة المستقلة للفرد من اختيار نماذجها الجمالية حيال أي تجربة شعرية، على نحو ما.


* كاتب من السودان

اقرأ أيضاً: اختبار الوطن.. نكسات مضافة

المساهمون