Skip to main content
حين تخدع الأرقام الجماهير
حسام الدين السيد
من مشاهد "30 يونيو".. هل كانوا 30 مليونا؟ (30/6/2013/Getty)
كان أستاذ العلوم السياسية في جامعة فرجينيا، ومؤلف كتاب "صدام الأفكار في السياسة العالمية"، جون أوين، في يناير/ كانون الثاني عام 2012، يحاول أن يعقد مقارنة بين الليبرالية في أوروبا والإسلامية في بلاد الربيع العربي، وكتب مقالاً في جريدة نيويورك تايمز، يحاول أن يفسر لماذا يفوز الإسلاميون في الانتخابات، وما دلالالة أرقام التصويت، وخلص إلى أن قنواتٍ عميقة جرى حفرها في قاع المجتمع، سمحت لليبرالية الأوروبية أن تفوز على الإقطاع، وللإسلامية العربية أن تفوز في الاقتراع، وهذه القنوات نتاج عمل مجتمعي طويل مستمر بين الناس، قام به ناشطون ومؤمنون بالفكرة، وأبقوه مفتوحاً كقناة عمل، سنوات طوال، حتى يمكن تمرير أي شيء من خلالها وتحقيق النجاح، وهذه القنوات هي الأهم على الإطلاق من أي نتائج أو أرقام هي مجرد مراكب للعبور.

في يناير/ كانون الثاني 2011، كانت الحشود الهائلة في ميادين مصر مفاجأة مذهلة للنظام التسلطي القائم، ولمن دعوا إلى الاحتشاد على السواء، حاول النظام وقتها، وآلة إعلامه، التقليل من شأن المتظاهرين وعددهم، وخرج أكثر من متحدث موال للنظام يؤكد أنه لو كان هناك مليون شخص في الشارع فهناك ثمانون مليوناً آخرين في البيوت، مفترضاً أن هؤلاء يؤيدون نظام مبارك، وأن الخارجين إلى الشارع قلة يعارضونه، وهو افتراض ثبت تهافته بعد ذلك، بانهيار النظام نفسه، في زمن قياسي أقل من ثلاثة أسابيع، على الرغم من محاولات رقمية معكوسة من الإعلام الرسمي وقتها، وصلت إلى درجات الحرارة، حيث كانت النشرة الجوية تبث درجات المدن المصرية الكبرى والصغرى، حتى إذا جاءت على القاهرة ذكرت أن الدرجات " باردة جداً" من دون قراءة رقمية محددة، في محاولةٍ هزلية للإيحاء للجمهور المحتشد عدم النزول إلى الميدان للتظاهر خوفاً من برودة الجو.
وقتها تمت عملية ميلاد "المليونية" تعبيراً سياسياً عن الحشد الجماهيري الهائل، للاحتجاج أو الابتهاج، ولم يعد أحد يهتم بالإحصاء العلمي للأرقام، لكنها تحولت لاحقاً إلى مادة مهمة للتنابذ السياسي، عندما اضطر كل فريق أن يدعو إلى مليونية وحده، ويدّعي أنها أكبر من تجمع
معارضيه ومخالفيه، بل إن تظاهراتٍ لم يتعدّ المشاركون فيها بضع مئات وظلت تسمى مليونيات، من باب السياسة، لا من باب الإحصاء، ومن باب التفاخر بالأرقام، لا الدقة والالتزام. وكان الأهم هو صحة ما يشير إليه جون أوين، أن قنوات العمل المجتمعي، وقنوات الغضب المحفورة في قاع المجتمع، تنتظر جريان الشلالات فوقها، حتى ترسم مسارات التغيير، وأعداد المتظاهرين دوماً هي علامة السريان وقوة الشلال.
يعرف المصريون رقم الثلاث تسعات جيداً، وهو محفور في ذاكرة كثيرين، علامة على تأميم السياسة، واستغفال الجماهير، حيث دأبت حكومات الرئيسين الأسبقين، أنور السادات وحسني مبارك، على إعلان نتائج الاستفتاءات على تجديد مدة الرئاسة، أو القرارات المصيرية التي يريد الرئيس تمريرها، بأنها جاءت بنسبة 99,9%، ومع الفورة الاتصالية الهائلة، أصبحت ضلالية الرقم أفدح من قدرته على الإقناع، حيث اكتشف الناس، بمطالعة الإعلام والفضائيات، أن اختراع الثلاث تسعات هذا غير موجود تقريباً إلا في دول شديدة الشمولية والاستبداد. وبالتالي، تحسن التلاعب في الرقم أخيراً، حتى إن نسبة المشاركة التصويتية أخيراً عام 2005 على بقاء مبارك مدة رئاسية جديدة، كانت 23% ممن يحق لهم التصويت، وحصل مبارك فيها وفق النتائج التي تم إعلانها على 88% من أصوات الناخبين المشاركين.
سلاح الأرقام نفسه هذا استخدمه الحزب الوطني الحاكم في زمن مبارك، لاكتساب شرعية والإيهام بالشعبية، بصرف النظر عن دقة الأرقام وصحتها، حيث كان يحلو لمسؤوليه أن يرددوا أنهم الحزب الذي يحوز ثلاثة ملايين عضو في صفوفه، لكن هذه الملايين الثلاثة لم يظهر لها أثر في ثورة 25 يناير التي كانت ضد الحزب ورجاله ونظامه، ولم يتظاهر أحد منهم، باستثناء عشرات دعماً لنظام مبارك الذي هوى، على الرغم من الملايين، بل كان "رقم" آخر هو من أسباب الغضب والتعجيل بالثورة، حيث أعلن الحزب الوطني، قبل شهرين من ثورة 25 يناير، فوزه الكاسح في انتخابات مجلس الشعب المصري، بنسبة غير مسبوقة، وغير مصدقه، بلغت 97% من مقاعد البرلمان، ما أثار غضباً بدل أن يورث الرقم ثقة، حيث تقتل الأرقام أحياناً.
أشهر طرق عد الجموع في الشوارع هي المأخوذة من عالم الرياضيات، هاملتون جاكوبي، والمعروفة باسمه، حيث تعتمد على حل المصفوفات العددية المركبة بتبسيطها، ثم إعادة تكوين قيمها لتعطي نتائج تقريبية، لكنها أكثر دقة، فيتم حساب المساحة الكلية لمكان التجمع وتقسيمها إلى وحدات أصغر متساوية، وقياس الكثافة العددية في المتر المربع الواحد، ثم تجميع الأعداد، لنحصل على نتيجةٍ تقريبيةٍ دقيقة إلى حد ما لأعداد المتظاهرين. وفي عام 1995 قام قسم الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية الذي يرأسه العالم المصري الدكتور فاروق الباز، باستخدام هذه الطريقة لحساب أعداد المتظاهرين المشاركين في المسيرة المليونية التي دعت لها جماعة أمة الإسلام في واشنطن، وأصبحت طريقة معتمدة وعلمية من يومها لقياس أعداد المتظاهرين.
باستخدام صور الأقمار الاصطناعية، والصور الموجودة على "غوغل إيرث"، يمكن حساب
المساحة الكلية لميدان التحرير وكل المنطقة المحيطة به، والتي تبلغ في أقصى اتساع حوالى 114 ألف متر مربع. ويفيد خبير نظم المعلومات الجغرافية، أحمد وجيه عبد اللطيف، بأن هذه المساحة بما فيها من عوائق وفراغات، لا تحتمل أكثر من 570 ألف شخص في وقت واحد، وهذه أقصى سعة للميدان وما حوله، وطبعاً ميدان رابعة العدوية أو غيره من الميادين والشوارع الرئيسية في محافظات مصر، أقل من ذلك بكثير، وهي الأماكن التي تظاهر واعتصم بها مناصرو جماعة الإخوان المسلمين، وقالوا إنهم بمئات الآلاف، احتجاجاً على عزل قائد الجيش الرئيس المنتخب، والتي انتهت بفض عنيف خلف آلاف القتلى والجرحى في مجزرةٍ مروعة، لم تنفع معها الأرقام بصرف النظر عن دقتها.
أوردت شبكة بي بي سي البريطانية تقريراً في 15 يوليو/ تموز 2013، يكشف فيه مراسلوها حقيقة الأرقام، ويدحضون مقولات الأعداد الخرافية لعشرات الملايين التي تنزل إلى الشارع في مصر الثورة، حيث لم يرد رقم الثلاثين مليوناً المتداول بين كثيرين، فيما يتعلق بالغضب الشعبي الكبير ضد الرئيس السابق، محمد مرسي، على لسان أي مصدر معلوم، بل دوماً كانت المصادر مجهولة، أو غير موجودة. ونفت ذلك وكالة الأنباء الرسمية (الشرق الأوسط)، حيث أكدت عدم وجود مصادر أو تصريحات رسمية لأعداد المتظاهرين في 30 يونيو، ولا حتى لرقم 14 مليوناً الذي يتردد أحياناً من باب التواضع عن الثلاثين. وضربت "بي بي سي" أمثلة على المبالغات الرقمية في كل أحداث العالم الكبرى تقريباً، من حفل زفاف الأمير ويليام حفيد ملكة بريطانيا إلى حفل تسليم السلطة من بريطانيا إلى الصين في هونج كونج، حيث أصبحت الأرقام المليونية من قبيل الدعاية وإرضاء عطش الجماهير الباحثة عن نصر معنوي، وأيضاً التنابذ السياسي بين الفرق المتصارعة على السيطرة وفرض الإرادة السياسية، حيث يحاول كل فريق إظهار المساندة الشعبية له في الشارع، شبراً بشبر ومتراً بمتر وقدماً بقدم.
وعشية تنصيب الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، عادت التظاهرات المليونية إلى الساحات والميادين والنقل عبر الشاشات مرة أخرى، حيث تظاهر نحو نصف مليون في واشنطن وحدها، وحوالى مائة ألف في لندن، و600 مسيرة احتجاجية في عدة عواصم، في حين ادعى ترامب نفسه أن من شهدوا حفل تنصيبه أمام البيت الأبيض وصلوا إلى مليون شخص، وكانت الكاميرات حاضرة لتثبت أن هذا الرقم مبالغة أخرى كبيرة، ستصبح معتادة من فم الرئيس الذي لم تؤثر الأعداد والمظاهرات والأرقام المتتالية على قراراته المثيرة للاستياء والجدل التي يصر عليها، ولم تزل المظاهرات والأرقام تتوالى في محاولة لحلحلة أوضاعٍ لاتغيرها إلا ممارسة السياسة الحقيقية، فليس التظاهر إلا وسيلة، وليست الأرقام إلا مؤشراً.
المفارقة اللطيفة في التنافس الرقمي بين الخصوم السياسيين يكشفها أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، إبراهيم عرفات، مؤكداً أن متوسط السنوات التي جلسها الحاكم على عرش مصر هو أربع سنوات، موضحاً أن هذا العدد لا يعني أننا ديمقراطيون، وأن بلادنا تنعم بتداول للسلطة منذ التاريخ العربي القديم، فقد تبدو أربع سنوات دليلاً على تداول السلطة والتبادل الديمقراطي، أما سجلات التاريخ فتؤكد أن من حكم أراد أن يستمر، وأن من أمضى فترة وجيزة فليس لسببٍ إلا لأنه خلع من منصبه بالموت أو بالعزل. ما زال الطريق إلى أبسط الممارسات الديمقراطية طويلاً، على حد تعبير عرفات. وعلى الرغم من إدعاءات الأرقام ودلالاتها، الواقع السياسي ترسمه موازين القوة، لا ادعاءات الحشد والفتوة، على أي جانب، وفي أي ميدان كانت.