حيث لا هبوط
جملة تكررت على مسامعه مراراً، بتعبيرات مختلفة في الآونة الأخيرة، (أنت أهبل ومش فاهم الدنيا). يقول بعضهم له بدماثة: أنت طيب القلب أكثر من اللازم. وبعض آخر يقول بحزم: لا تكن شديد الثقة بالآخرين. ولأن الجملة الصادمة قالها، في وجهه مباشرة (وعلى بلاطة)، أشخاص مختلفون في كل شيء، سوى إجماعهم على تلك النتيجة، فإنه استبعد عنصر سوء النية، وخشي أن يكون لدى الأصدقاء ما يبرر هذا الاستنتاج. لذلك، قرّر في لحظة صفاء أن يخضع شخصيته موضع الانتقاد إلى تقييم ذاتي بالغ الموضوعية والحياد، يتناول فيه أداءه المهني والإنساني، مركزاً على العيوب، قبل المزايا، فأقر لنفسه بأنه شخص عصبي ونزق مزاجي عنيد، لا يتمتع بالمرونة الاجتماعية المطلوبة، لكنه كان على يقين أن ذلك لا يؤثر على منجزه الوظيفي، بل إن هذه صفات من شأنها أن تؤكد على استقامته، موظفاً مثالياً غير قابل للفساد، لا يهادن في المصلحة العامة، ويؤدي مهام عمله بكل إخلاص، حريصا على الإبداع والابتكار حائزاً على رضى رؤسائه الذين يشيدون، دوماً، بشخصيته الجادة، ويمنحونه لقب الموظف المتميز، وتعلق صورته أحياناً على لوحة الشرف في مقر عمله، ما يجعله يحصد المكافآت الاستثنائية، وشهادات التقدير التي يعلقها على جدران مكتبه، بكل اعتزاز .
وعلى الرغم من معرفته الشخصية بمتنفذين وأثرياء كثيرين، بحكم قرابة الدم في معظم الأحيان، إلا إنه يبقى غريباً عن أجوائهم الباذخة العابقة برائحة السيجار الكوبي، بسبب عدم اكتراثه باهتماماتهم من استثمارات وعقارات ورحلات استجمام، أرصدة وأبراج ويخوت وغيرها من مفردات الوجاهة. وبالتالي، هو محصن بداهة ضد الانبهار بالبريق الذي يعمي أبصار الكثيرين، بل إنه يشعر بغربة أكثر وطأة في أجواء من المفترض أنها أكثر رأفة وحميمية، ويشارف على الاختناق أحياناً من فرط النفاق والتزييف والانتهازية والتزاحم على المكتسبات الصغيرة، ولأنه يميل، بطبعه، إلى المباشرة والوضوح، وهو أخرق بالكامل فيما يتعلق بمهارات المجاملة، إلا في حدها الأدنى، فإنه كثيراً ما يجد نفسه طرفاً في خصومات لم يخترها، فيذهب إلى العزلة طائعاً متجنبا مزيداً من الخيبات.
يرى أنه كشخص تربى على الصخب سرعان ما يستوحش، فيعاود الحركشة بالحياة متخذاً قرارات غير جادة بضرورة التركيز على مصلحته فقط، واستثمار عوامل الصعود الاجتماعي التي يتميز بها، وفقاً للأصدقاء، لكنه يخفق في الإيفاء بوعده لذاته، ويعود إلى أسلوبه غير الاستراتيجي القائم على إنكار الذات وحس الشفقة والانحياز إلى الطرف الضعيف في أي معادلة. في علاقته بالآخرين، ليست لديه معايير متعلقة بالربح والخسارة، فهو يحب أشخاصاً ويمقت آخرين، لأسباب غامضة متعلقة بمزاجه. لديه منسوب فائض من الوفاء، يقال إنه يعوق تقدمه نحو الأمام، نفسه (خضرا)، يحب الناس ويعشق الحياة، مهما ضنّت عليه بأسباب الفرح.
حين انتهى صاحبنا من تقييمه الذاتي، وأعاد التفكير في نصيحة أصدقاء كثيرين، أيقن أنه سيظل ضمن تصنيفات المرحلة وناسها أهبل بامتياز، غير أن روحه ستظل محلقةً كطائر في فضاء من الكبرياء، حيث لا هبوط!