Skip to main content
حيتان هذا الزمان
ماجد عبد الهادي
قبل فتح سيرة ملوك البحر، دعوني أحدثكم، أولاً، عن الحيوانات البحرية المعروفة بطيبة أخلاقها، والتي تسمى، في معظم لغات العالم، بالدلافين، بينما تسمى، في العربية، بالدخس، وتُعرّفها موسوعة ويكيبيديا بأنها ثدييات قريبة بالحيتان والخنازير البحرية، وتتوزع على سبعة عشر نوعاً، يصل طول بعضها إلى أكثر من تسعة أمتار، وقد لا يقل وزن الواحد منها عن عشرة أطنان. 
الأهم في التعريف، أو الأكثر صلة بما نحن ذاهبون إليه، ورد في المعاجم العربية القديمة (القاموس المحيط ولسان العرب)، إذ قالت إن الدلفين، أو الدخس، دابة في البحر تُنجي الغريق، فتمكّنه من ظهرها، ليستعين على السباحة.
وثمة قصص أكثر من أن تُحصى، عن دلافين أنقذت البشر من الموت غرقاً في موطنها الماء، وحملتهم على ظهورها، إلى شواطئ الأمان، في موطنهم اليابسة، من دون أن تنتظر حمداً، ولا شكورا.
لكن أحداً لا يروي، كيف، وبأية وسائل وأساليب، يتمكّن الإنسان من أسر هذه الحيوانات الطيبة، ونقلها إلى الأرض، ليستعبدها، أو يستثمرها، بلغة الاقتصاد، فتدرُّ عليه دخلاً وفيراً. هل يتظاهر بالغرق، مثلاً، فيخدعها لتحمله، وتبحر به نحو الشاطئ، ثم تقع هناك في شراكه، أم تُراها تأتي معه، إلى عبوديتها، طوعاً، وبكامل رضاها؟!
لا جواب متاحاً على سؤال كهذا، وغالب الظن أن كل ما يعرفه الناس عن الدلافين يتأتى من مشاهدة عروضها الشيقة على شاشة التلفاز، أو على أرض الواقع، أحياناً، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
ففي أحواض تشبه البحر، من حيث لونها، وتتناقض معه، من حيث ضيق المساحة، وضحالة العمق، على الأقل، يعيش الدلفين بعد نقله إلى الأرض، وهناك يقدم كلما حانت ساعة عرضه اليومي، ما يثير العجب؛ في البدء يدور ويدور، تحت الماء، بلا توقف، ويطلق أصوات زقزقة ضعيفةٍ، لا تلائم شكله، يسمعها البشر الجالسون على المدرجات المحيطة، فيحبسون أنفاسهم انتظاراً لظهوره على السطح، بأمر سيده "المروض" الذي يقف عند حافة المكان، نافخاً صدره، وملوحاً له بإشارات معينة، ليواصل الدوران، أو ليأتي، ويجثو بين الفينة والأخرى، على البلاط، عند قدمي الرجل، منتظراً الحصول على فتات أسماك ميتة، يلقيها هذا الأخير نحوه بسرعة وخفة، فيبتلعها، ويغوص في الماء من جديد، ثم يقفز بوزنه الثقيل إلى ارتفاع أمتار عدة، ولعله يطير، ليمر، برشاقة مذهلة، عبر حلقات مطاطية معلقة في السقف، وبالكاد تتسع لجسده الضخم، فيضحك الناس، ويصفقون، بسعادة بالغة.
مع انتهاء كل عرض، سيحتاج الدلفين مزيداً من فتات الأسماك الميتة، لكي يقدم ظهره مطية لمن يرغب من المتفرجين، ويدور بهم في الحوض المائي الضيق الضحل، واحداً تلو الآخر، ثم يعيدهم آمنين مطمئنين، ليلتقطوا الصور التذكارية، إلى جانبه، وهو يفتح فمه، محاولاً الابتسام للكاميرا.
غير أن هذا الحيوان المسالم، وقد ورطته طيبته، ربما، في ما هو فيه، ما عاد وحده من بين حيوانات البحر مجرد بهلوان في سيرك، يقفز ويغوص ويجثو على البلاط، بمجرد إشارة من مروضيه، بل إن الحوت، بقوته وسمعته وهيبته، صار اليوم كالدلفين، في مهانته، ويمكن لكل من لديه بعض الفضول أن يبحث عنه، ليجده في الحوض الضيق الضحل نفسه، يلتزم تنفيذ ما يؤمر به، نظير كمية أكبر من فتات الأسماك الميتة، ويقبل صاغراً بالعقاب، حين يخذله جسده الضخم، ويعجز مثلاً عن إلقاء الكرة في السلة، فيعود ليحاول مرة، ومرتين وثلاثا، أملاً بأن يحصل، في الأخير، على ما يملأ جوفه.
تنويه: كل تشابه، قد يتخيله القارئ، بين الدلافين والبشر، مقصود تماماً، وليس من قبيل المصادفة تشابه مصير حيتان البحر، أحيانا، مع مصير حيتان الأرض، والتزام الأخيرة طاعة السيد الذي يقف نافخا صدره عند حافة المحيط.