حياة سياسية على الهواء مباشرة

حياة سياسية على الهواء مباشرة

06 يونيو 2020

في اعتصام صامت بجامعة في مينابوليس ضد العنصرية (4/6/2020/Getty)

+ الخط -
يتاح لمن يهمه الأمر متابعة الاحتجاجات الأميركية على الهواء مباشرة من قنوات أميركية، ذلك أن حق القيام بمظاهراتٍ مكفول في الدستور، كما أن وسائل الإعلام تمارس حقها وواجبها في نقل صورة ما يجري في البلاد، ونقل آراء متعدّدة لمشرّعين وحزبيين ومسؤولين ومواطنين. هذا يحدث في البلاد التي ما زالت تشكو من سريان رواسب العنصرية، وبالذات ضد المواطنين من أصل أفريقي، وجُلّ هؤلاء من أحفاد العبيد الأفارقة الذين تم نقلهم بالسفن إلى هذه البلاد على مدى ثلاثة قرون. بينما هناك كثرة من المواطنين البيض هم من أحفاد تجار العبيد عبر الأطلسي. وقد كان وصول باراك أوباما (من أصل كيني) إلى البيت الأبيض في عام 2008 تعزيزا لإنتهاء موجة التمييز العنصري التي توقفت مع منتصف القرن العشرين. وتتجه العنصرية، الثاوية منها والظاهرة، لغير البيض وغير الأوروبيين وتستهدف اللاتينيين والهنود الحمر والصينيين والشرق أوسطيين وسواهم، في وقت ظلت فيه هذه البلاد مركزا لاستقطاب المهاجرين من مختلف أنحاء العالم. 
وبهذا احتفظت أميركا بصورة مركّبة ودينامية، تختلف عن التي يُظهرها يساريون وقوميون عرب، أنها لا تعدو أن تكون معقلا للعنف والجريمة والمخدرات والعنصرية. ويجد هؤلاء في الاحتجاجات الراهنة برهانا على تصوراتهم، مع أن دولاً أخرى كانت لتفرض حال الطوارئ وإنزال الجيش في اضطراباتٍ أقل وتيرة من هذه، غير أن ذلك لم يحدث في بلاد العم سام. حتى أن وزير الدفاع، ماك أسبر، رفض علنا طلبا للرئيس بإنزال الجيش، ولنا أن نتصوّر ماذا يحدث لوزير دفاع يخالف أوامر الرئيس في البلدان التي يعشق أنظمتها تقدّميون عرب.. فيما استقال مستشار بارز في البنتاغون (وزارة الدفاع) هو جيمس ميللر جونيور، لأن موقف الوزير لم يكن كافيا، ولأن استخداما للقوة على نطاق واسع، من قبيل استخدام الغاز المسيل للدموع، قد تم، وذلك مقابل احتجاجاتٍ لم تفتقر إلى العنف، وأخذت في طريقها أملاكا عامة وخاصة.
على هذا النحو الشفاف، تدور الأمور في أوساط سلطةٍ منتخبةٍ تستمد وجودها واستمرارها من 
إرادة الناخب، وتستقوي بالقضاء ووسائل الإعلام والتعبير المتاحة، بغير قيودٍ تذكر. وقد بدا الرئيس دونالد ترامب مقيدا، لأن حكام الولايات يقرّرون ما يرونه هم صائبا، بصرف النظر عن الأوامر والتعليمات التي لا وجود لها التي تسم الأنظمة الشمولية والديكتاتورية. ووقف في الأثناء رجال دينٍ كبارٍ ينتمون للبروتستانت والكاثوليك ضد استغلال الرئيس المؤسسة الدينية في زيارته الخاطفة لكنيسة في واشنطن على مقربة من البيت الأبيض، والتقاطه صورة له أمامها، وهو يحمل الكتاب المقدس، لأغراضٍ سياسية وحزبية (لنتذكّر استخدام الرئيس الروسي بوتين الكنيسة الأرثوذكسية في بلاده لتمرير سياساته، والتغطية عليها والتنكيل بالمعارضين). كما هدّد ترامب بتصنيف منظمة أنتيفا المناهضة للفاشية إرهابيةً وحلها، علماً أنها تيار فضفاض بغير مقر لها ولا زعامات، وبدون جسم تنظيمي صلب يحُاكي الأحزاب ومنظمات العنف، غير أن تهديداته لم تجد طريقها إلى التنفيذ، لأن القيام بهذا الإجراء ليس متعلقاً برغبة رئيس البلاد هناك أو اجتهاده.
وبينما تسود انطباعات متعجلة بأن الأميركيين ذوي البشرة السمراء هم وقود المسيرات ومحرّكها، إلا أن واقع الحال يفيد بأن أميركيين بيضا يشاركون في هذه الاحتجاجات، لأسبابٍ مختلفة، منها أن التمييز يستهدف الضعفاء، ومن يتم استضعافهم بصرف النظر عن اللون والعرق. وقد لعبت ظروف تفشّي وباء كوفيد 19، وما تبعه من إغلاق وفقدان ملايين الوظائف، وما كشفه من قصور النظام الصحي في تعبئة شرائح واسعة من الأميركيين، غير أنه كانت لمن هم من أصول أفريقية حصة الأسد في الخسائر، ثم في الضحايا، فمن بين كل أربعة متوفين بالوباء هناك ثلاثة سود، ومن بين كل أربع وظائف مفقودة هناك ثلاث وظائف كانت للسود، وهكذا حظي هؤلاء بـ"الموت وخراب البيوت" معا. وقد أضيف إلى ذلك موت جورج فلويد خنقا تحت حذاء شرطي أبيض، اجتهد في القيام بهذه الطريقة المشينة والوحشية في توقيف شخصٍ يحمل ورقة نقد اشتبه بأنها مزيفة، ولعله لم يكن يدري عن أمر هذه الورقة من فئة العشرين دولارا.
وقد أسهمت هذه التطورات في تظهير المحتوى السياسي للحزبين الكبيرين، الديمقراطي 
والجمهوري، فقد اتخذ الحزب الأول موقفا واضحا ضد سياسات ترامب التي تُغذي الانقسام والعنف والكراهية، فيما بدا الحزب الجمهوري في وضع دفاعي، ومفتقدا قياداتٍ تحمل خطابات توحّد الأمة الأميركية. ومن شأن التمايز السياسي أن يزداد وضوحا وحدةّ خلال الأسابيع العشرين التي تفصل الأميركيين عن استحقاق الانتخابات الرئاسية، بل بات مركز الرئيس عرضةً للاهتزاز مع ازدياد حدّة الانقسامات والاستقطابات داخل الحياة السياسية وفي صفوف النخب، وإصرار ترامب على الحلول الأمنية، بدل محاولة جمع أزيد من 330 مليون أميركي على خريطة طريق داخلية لإحقاق العدالة على جميع المستويات، وتطمين الفئات الأضعف على حاضرها ومستقبلها، ومداواة جروح ضحايا الوباء وفقدان موارد الرزق.
ولا شك بعدئذ في أن الحياة الأميركية تعج بالتناقضات بين حكم القانون وتداول الأسلحة وبيعها، وبين أحكام الدستور وممارسات رجال الشرطة، وبين الحريات الفردية والجشع الرأسمالي الذي لا يترك لمشرد أو جائع فرصةً لإدراك حقوقه، وبين مبادئ المساواة والاستعلاء الطبقي والعرقي، وبين الديمقراطية في الداخل ومناصرة ديكتاتوريين في الخارج، وبين مفاهيم إشاعة السلام وحكم القانون مع الانحياز الهستيري للاحتلال الإسرائيلي بنزعاته التوسعية والعنصرية. ومثله يقال عن احترام حرية الأديان، مع دعم تنكيل الدولة العبرية بغير اليهود وازدراء معتقداتهم. وقد انفجرت هذه التناقضات العنيفة التي تجثم على أنفاس الملايين من المهمشين، ما جعلهم يرفعون عبارة فلويد "لا أستطيع أن أتنفس" أيقونة لاحتجاجاتهم العنيفة. فيما شهدت عواصم غربية، من بينها لندن، مسيرات مؤيدة للاحتجاجات الأميركية. ولم تخرج بالطبع تظاهرات في روسيا والصين تأييدا للاحتجاجات، ليس لأن البلدين ضدها، بل هم معها بحماسة شديدة.. ولكن لأن مبدأ الاحتجاج في الشارع محظور في البلدين. وبهذا لا يجد تقدّميون عرب أي غضاضة في نعي الديمقراطية الأميركية الناقصة، ودعم الديكتاتورية الكاملة في بلدان أخرى.