حوارات مع محمود درويش

حوارات مع محمود درويش

27 مارس 2020
+ الخط -
واحدةٌ من تقاليد الأمم والشعوب الحية احتفالاتُها بأعياد ميلاد كتّابها الكبار، ممن أحرزوا موقعا متقدّما في خريطة الإبداع الإنساني. وطيّبٌ في الفلسطينيين أن أوساطا عريضة منهم تستحضر، في مارس/ آذار سنويا، محمود درويش، شعرا وشاعرا، فتنكتب عنهما نوستالجيات وإضاءات، وإنْ كان بعضُها فقير القيمة. وطيّب أن إعلان أسماء الفلسطيني والعربي والأجنبي، الفائزين بجائزة الإبداع التي تحمل اسمه، يتم في يوم عيد ميلاده، كما جرى قبل أيام. وعلى أهمية مبادراتٍ تحققت، فلسطينيا وعربيا، بشأن تقدير مكانة درويش وموروثه، منذ وفاته عن 67 عاما في العام 2008، يبقى هناك ما يجدر صنعه، وأهمّه جمع كل المقابلات والمحاورات معه، الصحافية وغيرها (ومنها التلفزيونية)، ونشرها ملمومةً، مؤرشفة موثّقة مؤرّخة مبوّبة، وستكون، في ما أحدس، في أكثر من كتاب. وذلك للقيمة الثمينة فيها في غير موضوع وشأن، فلم يكن محمود درويش صاحب موهبةٍ شعريةٍ عاليةٍ ونادرةٍ وحسب، وإنما كان، أَيضاً، مثقفاً كبيراً وصاحبَ رؤىً وتصوراتٍ وتأَملاتٍ ثريَّةٍ ورائقةٍ في الفكر والسياسة والشعر والفنون، في السيرة والثقافة والمعرفة، في فلسطين والعالم، في الموت والحياة، في ياسر عرفات، في المرأة والحب، في شعراء وأدباء غير قليلين في التراث الإنساني، في قصيدة النثر و"الروح النضالية" لكتّابها، في حصار بيروت واتفاق أوسلو، في الأدب الإسرائيلي، في النثر الصوفي.. وإنجاز هذا المشروع يُوفِّر في المكتبةِ العربيةِ سجلاً كاشفاً لمحمود درويش مثقفاً، وصاحب وجهات نظرٍ واجتهاداتٍ، كثيرٌ منها رهيفٌ وعميق، بشأْنِ وقائعَ سياسيةٍ ومحطّاتٍ غيرِ قليلةٍ، عَبَرت فيها ومنها وإِليها القضيةُ الفلسطينية. فضلاً عن إِضاءاتٍ بشأْنِ تجربته، والمدن التي أقام فيها، وكيفيات كتابتِه قصائده ومراجعاتِه لها، وغير هذا كله كثير. ولا تزيّد في الزعم إن درويش كان من بين شعراء عرب قليلين يحوزون ثقافةً واسعةً ومعرفةً وفيرةً بالعالم ومتغيراته، فضلا عن أن ملكاتِه حاذقةٌ في التعبير عن قناعاته وتصوراته.
ألحّ صاحب هذه الكلمات، في مقالةٍ نشرها في مجلةٍ عربيةٍ قبل سنوات، على هذا الأمر، ودعا مؤسسة محمود درويش للإبداع إلى إنجازه، وفي البال أن حواراتٍ مع الشاعر صدرت في كتاب، بترجمة إلياس صنبر إلى الفرنسية في 1997 عن دار آكت سود. وقرأتُ أن دار نشر في الناصرة أصدرت، في 2012، كتابا يضم حواراتٍ قديمة مع درويش ومقالات له (قبل 1970). ولكن المفاجأة الجميلة (لا مبالغة) جاءت من الصديق الكاتب والناشر، سعيد البرغوثي، في إصداره، قبل شهور (2019) عن دار كنعان التي يملكها في دمشق، "الطروادي الأخير.. حوارات مع محمود درويش"، في 520 صفحة. كتاب يوفّر مقدارا كثيرا وطيّبا مما هو مدعوّ هنا إلى تلبية الحاجة إليه. يشتمل على 27 محاورة ومقابلة، ثلاث منها لا لزوم لها (دردشات عابرة)، واثنتان تلفزيونية وإذاعية، واثنتان في ندوات ومحاورات مشتركة، وعدد منها مع صحف فرنسية وإسبانية (وواحدة مع هآرتس الإسرائيلية). وإذا كانت هذه المحاورات، بما فيها الأولى في منبر عربي (مجلة الطريق اللبنانية)، وأجراها مع درويش في موسكو عام 1968 محمد دكروب، قد اشتملت على كثيرٍ مهمٍّ في غير مسألةٍ ثقافيةٍ وشعريةٍ ووطنيةٍ وسياسية و..، جاء جيدا أن الكتاب ضمّ أيضا مقابلة مع درويش، نشرت في 1987، عن تجربته الفاشلة مع الزواج، وعمّا يزعجه في المرأة، وعن أناقته ومنظوره إلى الأناقة، وهي مقابلةٌ مع "النجم" محمود درويش، وهو كذلك على أي حال، أقلّه في واحدةٍ من صوره، وهو الذي يقول، في حوار آخر، إنه لا يجرؤ على الذهاب إلى السوق، فالعيون الفضولية ستُحملق في محتويات سلّته.
لم يدّع سعيد البرغوثي، في مقدمته "الطروادي الأخير .."، أن الكتاب يضم كل المقابلات مع درويش في أربعين عاما، غير أنه لا يشير إلى أن نقصا في هذا الأمر يحتاج من يستكمله. ولمّا كانت أغلب الحوارات هنا أجراها مشتغلون في الشعر والنقد والصحافة الثقافية الرفيعة، منهم عبده وازن وصبحي حديدي وشربل داغر وفخري صالح وحسن نجمي وعبد الصمد بن شريف وعباس بيضون، فقد جاء ما تقرأه في الكتاب عاليا ونابها، فيه الطرافة والدّقة، وفيه عبارات ماكرة أيضا، ودرويش يقول لحسن نجمي إن "الحوار، في جوهره، كتابة شفوية، وليس مجرد جلوس وكلام، كما يبدو لكثير من الصحافيين المستعجلين". .. وفي الكتاب أيضا كثيرٌ من سيرة درويش التي لم يكتبها (يراها عادية جدا)، وأيضا كثيرٌ مما ستكون لصاحب هذه المقالة مناسبةٌ أخرى للتجوال (أو الجولان؟) فيه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.