حكومة العبادي والوفاق الوطني

حكومة العبادي والوفاق الوطني

30 يناير 2015
+ الخط -
بعد أن عادت قوى سنيّة منضوية في العملية السياسية في العراق إلى لغة التهديد بسحب وزرائها من حكومة حيدر العبادي الفتية، نتيجة تملّص الأخير من تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، قبيل موافقتهم على المشاركة في حكومته، وبعد ظهور مؤشرات واضحة عن تعاون أميركي مع شيوخ عشائر عربية في الأنبار وصلاح الدين، تجاوزاً للقناة الاتصالية الحكومية العراقية الرسمية من خلال دعوة، ثم زيارة بعض هؤلاء الشيوخ الولايات المتحدة، أخيراً، وشيوع معلومات عن اتفاقات بين الجانبين لتسليح واشنطن أبناء هذه العشائر وتدريبهم، بعد عمليات تسويف واضحة من الحكومة المركزية، اعتبرها شيوخ هذه العشائر مقصودة من العبادي والتحالف الوطني المنتمي له، بهدف القضاء عليهم، قوة ضاربة عصية إلى حد كبير عن الانقياد لتوجهات "المركز" الموالية للدولة الجارة للعراق: جمهورية إيران الإسلامية.
إطلاق يد الميليشيات الشيعية المتمثلة بما سمي "الحشد الشعبي"، وتحديداً في المناطق السنيّة من العراق، ثم تعرّض المناطق التي يتم "تحريرها" من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية هناك لعمليات تخريب بشعة، واعتماد أسلوب السلب والنهب، وإطلاق شعارات طائفية بغيضة، خلال تعاملهم مع سكان هذه المناطق، إضافة إلى الإساءة المباشرة والعلنية للمساجد، مع وجود عناصر إيرانية كثيرة ضمن هذه القوى، قيادات وأفراداً، كل هذه الأمور، ربما، دفعت القوى السنيّة، كما ذكرنا، إلى العودة إلى لغة التهديد بالانسحاب من حكومة العبادي. لكن، يبقى العنصر الأهم، إضافة إلى هذه الحقائق المريرة بالنسبة لسكان هذه المدن والقصبات، هو عدم تحريك العبادي أي ساكن بخصوص مطالب هذه المحافظات، والتي تعامل معها سلفه نوري المالكي بلامبالاة كثيرة، ثم بكثير من الدم (الحويجة)، فيما بدا لهم، بعد مرور أشهر على ترؤس العبادي الحكومة، عدم وجود نيات حقيقية لبحث موضوع المطالب الشعبية، المرتبطة بالأمن والحرية والعيش ضمن الحدود الدنيا لمتطلبات حقوق الإنسان الدولية.
إذن، العبادي "بحسب القوى السنيّة المهددة بسحب وزرائها من الحكومة"، لم يجر إصلاحات ترتكز على اعتماد منطق الحق والقانون والمساواة تجاه أبناء شعبه، كما لم يلغ السياسات الطائفية التي اعتمدها وروجها نوري المالكي، كما أنه ما زال يدير الحكم والملفات الساخنة بتوجيه من مقصورة حزب الدعوة والتحالف الوطني. ولهذا، لم يشعر المواطن العراقي غير المؤدلج بأن شيئاً قد تغيّر بين حكم المالكي ثم حكم العبادي، وهذا المواطن بات، الآن، أكثر قلقاً، بسبب تفشي ظاهرة الخطف وطلب "الفدية" الكبيرة جداً، ثم، وفي معظم الأحيان، يتم قتل المخطوف. وقد تم، أخيراً، إلقاء القبض "المؤقت" على "ابني أخ" وزير النقل الحالي والقيادي في المجلس الأعلى الاسلامي العراقي، باقر جبر صولاغ، بعد أن قاما، مع أفراد عصابتهما الحكومية، بسلسلة اختطاف غامضة، طالت كفاءات عراقية، كان آخرهم الدكتور الطبيب الاختصاص، أحمد الفياض، والذي تم ابتزاز عائلته بمئات آلاف الدولارات لإطلاق سراحه. مسؤولية العبادي، هنا، أن المجرمين المنتمين، أو المنتسبين، لقيادات التحالف الوطني، حتى وإن أعلن عن اشتراكهم بعمليات إجرامية، فإن لا أحد يعرف أين مآلاتهم؟ وفي أي بلد يستثمرون أموال "الفدى" أو "الفساد" التي تكون، في جميع تفاصيلها، على حساب المواطن وأمنه واستقراره، مسؤوليته أن يشرف على ضمان محاكمة وقصاص كل من يهدد أمن مواطنيه الشخصي أو المالي أو الاجتماعي، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
يقول مراقبون كثيرون لأداء رئيس وزراء العراق، حيدر العبادي، إن الوقت ما زال مبكراً للحكم بشكل قاطع على أدائه ضمن التشكيلة الوزارية التي يقودها حالياً، وهو أمر صحيح إلى حد كبير، وخصوصاً أن عملية التملّص من القبضة الإيرانية المطبقة على دائرة القرار السياسي العراقي، عملية لا يمكن أن تتم بإرادة وقدرة رجل واحد. ويعلم العبادي جيداً أنه محاط بعيون رجالات طهران وآذانهم، سواء في دائرته الرسمية ضمن رئاسة الوزراء، أو حتى في مجاله الحزبي المتمثل بحزب الدعوة والحاضنة الأكبر، التحالف الوطني. لكن، والكلام هنا لقوى
التحالف السنّي في البرلمان العراقي، العبادي، على عكس سلفه المالكي، يملك، اليوم، حكومة تمثل وفاقاً وطنياً من القوى المؤمنة بالعملية السياسية. ولو استمر العبادي في سياسة القضم التدريجي لمخلفات حقبة المالكي، كما يحاول أن يفعل في المؤسسة العسكرية العراقية، واستهداف بعض مراكز الفساد في المؤسسات الحكومية، فسينجح في نهاية الطريق، لذلك، بحسب رؤيتهم، فإن على العبادي أن يسلك طريق شعبه، ويتكئ على تحالفهم معه، والقوى الوطنية الأخرى في البلاد، من أجل إرخاء القبضة الإيرانية أولاً، ثم إعادة العراق إلى وضعه الطبيعي دولة ذات سيادة، سواء في إدارة شؤونها، أم في وضعها الإقليمي والدولي.
مَن يحلّل وضع العراق في ظل حكومة العبادي يكاد يصل إلى طريق شبه معتم، لا يمكن مطلقاً التنبوء بمآلاته ومطباته، فالرجل، على الرغم من الهالة الإعلامية التي رافقت تسنمه منصب رئاسة وزراء العراق، لم يقدم شيئاً يذكر في مسيرة الوفاق الوطني الحقيقي، فملف المصالحة راوح مكانه، ثم ذاب في زحمة المشكلات والأزمات الأخرى، والفساد ما زال مستشرياً بشكل كبير جداً، والمال العراقي ما زال بعيداً عن أعين الرقابة الحقيقية المفترضة لكل الحكومات في العالم، والأمن الوطني مغيّب في ظل هيمنة إيران على مجساته. وما زالت وزارتا الداخلية والدفاع تسرّحان الضباط بشكل جماعي، من دون ضوابط قانونية أصولية، بما يفسح المجال لإحلال قادة "الحشد الشعبي" ومنتسبيه محلهم، وما يعنيه ذلك من أدلجة أحادية الاتجاه للجيش العراقي وقوى وزارة الداخلية لاحقاً، ما زالت مطالب الشعب التي خرجوا من أجلها في بغداد وذي قار والبصرة والأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وغيرها، ما زالت مغيّبة عن أجندة العبادي.
قضايا كثيرة، ربما لا يمكن حصرها هنا، مثل ملف النازحين والمهجرين من المحافظات المنكوبة، وقانون اجتثاث البعث، والمادة 4 إرهاب، وعشرات الآلاف من سجناء السياسة والمقاومة، والمماطلة بموضوع الحرس الوطني، وكلام كثير حول موازنة 2015 وعدم ملاءمتها لمتطلبات الشعب العراقي، إلى غير ذلك من الملاحظات التي تهدد فعلاً حكومة "الوفاق الوطني" التي يرأسها حيدر العبادي، بما يجعل من ظروف العراق المقبلة أقسى وأصعب وأكثر انفتاحاً على جميع الاحتمالات الأكثر سوءاً ودماً ودماراً.


F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن