حكم اليسار في جنوب اليمن... وشهادة فواز طرابلسي

حكم اليسار في جنوب اليمن... وشهادة فواز طرابلسي

12 سبتمبر 2016
+ الخط -
يعد كتاب (جنوب اليمن في حكم اليسار.. شهادة شخصية، دار رياض الريس للكتب والنشر، 2015)، وهو حصيلة مقابلة صحافية أجرتها الزميلة الناشطة بشرى المقطري مع الكاتب اللبناني الدكتور فواز طرابلسي، كتاباً مهماً، إذ يضم عدة أسئلة تغطي جوانب مهمة من تجربة حكم اليسار في اليمن الجنوبي، الجبهة القومية ثم التنظيم السياسي، فصائل اليسار الثلاثة: الجبهة القومية (حركة القوميين العرب)، وحزب الطليعة الشعبية ذو الجذور البعثية، واتحاد الشعب الديمقراطي (التيار الماركسي).
وفي مرحلةٍ لاحقة، وتحديداً في أكتوبر/ تشرين الأول 78، تم توحيد التنظيم السياسي بفصائله الثلاثة المنوه بها، وحزب الوحدة الشعبية المكون من فصائل اليسار الخمسة في الشمال: الحزب الديمقراطي الثوري (حركة القوميين العرب) والطليعة الشعبية الآتي من حزب البعث، وحزب العمل (التيار الماركسي).
شعرت بسعادة غامرة، وأنا أتصفح الأسئلة الذكية وإجابات طرابلسي الذي عرفته في كتاباته وفي عدة لقاءات معه. ومن تتبعي أغلب مؤلفاته ومداخلاته في مؤتمرات وندوات، وهو باحث وأكاديمي، أدركت مقدرته على الخلاص من العصبيات الميتة والمميتة، والقادرة على فهم روح التطور والتغيير، وفهم الديالكتيك بعيداً عن الدوغما والإيمانية العمياء والبليدة.
وغطت الأسئلة والإجابات في الكتاب أهم جوانب تجربة حكم اليسار في جنوب اليمن، سلباً وإيجاباً، وكشفت، بل عرّت طبيعة الصراعات الكالحة في تجربة الحكم هناك، والمآلات البائسة بل الفاجعة للتجربة. وفواز طرابلسي كعادته منصف وموضوعي؛ فتعاطفه مع التجربة لم يمنعه من التقييم الموضوعي والصادق لها وأتفق مع التقويم، مع بعض الملاحظات على الكتاب، لا تقلل بأي حال من أهميته، ومن تقدير الصدق فيه.

لم يقف الكتاب، بقدر كافٍ، على تأثير الحركة القومية الماركسية (الجبهتان الشعبية والديمقراطية الفلسطينيتان ومنظمة العمل الشيوعي اللبنانية) على التجربة ذات الجذور القومية؛ وخصوصاً تنظيرات الأمين العام للجبهة الديمقراطية، نايف حواتمة، في "تجربة الثورة في الجنوب"؛ فقد كان حواتمة لاعباً رئيساً في تغذية الصراعات بين يمين الجبهة القومية ويسارها، وفي التحريض على العنف، وحسم الصراع بالقوة منذ البدء، وكان مهووساً بالفرز الطبقي، والتصنيفات ذات الطابع الأيديولوجي التي سادت خطاب اليسار؛ فقد تعامل يسار الجبهة مع حواتمة، بوصفه منظّراً وأباً روحياً، وكان لمقولاته أثر السحر على اليسار القومي، ومن ثم خلافات اليسار في المنطقة كلها، وخصوصاً لبنان.
في الجانب الآخر، لم تُعطِ الإجابات الاهتمام الكافي للصراع الدولي بين الصين وروسيا، على الرغم من الإشارة إلى ذلك، كما أن للصراع في المنطقة العربية أثر بالغ، وقد تجاهله قادة الجنوب كلياً بل تعاملوا معه بـ"زراية" وعدمية. وحقاً، فإن لحقبة "البترودولار" أثر مدمر على المنطقة، كما قد تم توظيف عائدات المغتربين في الصراع في الإقليم.

صراعات
دان فواز طرابلسي الصراع الدامي داخل اليسار القومي، وكان موضوعياً في تشريح عنف اليسار مع نفسه، ولكنه لم يدرس، بصورة أعمق، الجذور القبائلية لقادة الفدائيين، ولا ضعف مستوى تعليمهم، ولا انشدادهم إلى البندقية (حقيقة الله العظمى!) التي أوصلتهم إلى الحكم، ومكّنتهم من هزيمة بريطانيا العظمى. وقد أغرى الانتصار الفدائي الخاطف، في حرب الريف والمدن، وتحديداً المحمية عدن، القادة الفدائيين الآتي معظمهم من الريف بالتعويل أكثر على النفس، والاعتماد أكثر على السلاح، والاستهانة بالمدينة والمدنيين، وبالمحيط والعوامل الخارجية، وعدم التقدير للعمل السياسي؛ "فمن فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية"، ولهذه المقولة الماوية السائدة حينها جذور في ثقافتنا العربية الإسلامية، وفي موروثنا الشعري والشعبي، والأمثلة كثيرة.
بدأ الصراع داخل التنظيم، وجل الصراعات كانت داخل التنظيم السياسي، مبكّراً في التصفية للخصم السياسي (جبهة التحرير)، والبعث، والتيار الديني والناصريين، لكن ضحايا الصراع، في الغالب، كانوا داخل أجنحة الجبهة القومية، وفي ما بعد التنظيم السياسي، ثم الحزب الاشتراكي؛ ما يعني أنه صراع "عريان" على السلطة وحدها، وأن كليشيه "اليمين الرجعي" و"اليسار الانتهازي"، زائفة من أساسها، ولا تستر عورة النزوع المحموم للعنف، والاستفراد بالسلطة على الرغم من ترويكاتها الهشة. وقد أسهم إلغاء القوى الأخرى، المنافسة أو حتى المعارضة، في نقل الصراع إلى داخل الجبهة نفسها.
في إجاباته عن سؤال بشرى المقطري بشأن مظاهر الحرب الأهلية، لا يميل فواز طرابلسي إلى تسمية الحرب الأهلية، لكنه رداً على سؤال آخر عن الدور البريطاني، يؤكد على إصرار بريطانيا على الاحتفاظ بالنفوذ عبر الجيش، ويحيل إلى الوثائق البريطانية التي لم يطلع عليها. والحقيقة أن الجبهة القومية كانت صاحبة النفوذ الأكبر في الريف وفي القبائل وفي الجيش والشرطة أيضاً، ثم إن الصراع بين مصر وبريطانيا، وانحياز مراكز القوى لصالح قادة التحرير، وفرض الدمج القسري، كلها عوامل رجحت كفة الجبهة القومية المدعومة من القوى الشعبية في الشمال والجنوب، ما سهّل انتصارها؛ لأنها تبنت خيار الكفاح المسلح قبل الجميع، ثم ربطت خيار الكفاح المسلح بالوحدة اليمنية، ولم تعر اهتماماً للوعود البريطانية بالاستقلال، عكس بعض قادة جبهة التحرير، وللأمر في المحصلة النهائية علاقة بضعف المدينة أمام الريف المدجّج بالبداوة والسلاح.

فُجِّرَ الكفاح في الريف أولاً (ردفان)، وامتد كالحريق إلى مختلف مناطق الجنوب العربي حينها، ومع اشتداد الكفاح المسلح، وعجز القوات البريطانية عن حسمه، وصل إلى داخل عدن (القاعدة البريطانية) بعد قناة السويس، وكان قادة الكفاح المسلح متوسطي التعليم والتأهيل، وجلهم آت من الريف. ويتحدّث فواز طرابلسي عن الإصلاح الزراعي، وأن 10% من  الأرض صالحة للزراعة، والمزروع منها 5% فقط، وهو تقدير واقعي أو قريب. والواقع أن الجذور الريفية لجل قادة العمل الفدائي في حرب التحرير، وعدم القراءة العلمية والواقعية لهذه القضية، ساعد في تأجيج الصراع حد العنف. وكانت الدراسة الوحيدة في هذا الشأن هي للمفكر عبد الله عبد الرزاق باذيب، وتعود إلى  مطلع ستينات القرن الماضي، وعلى أهميتها وموضوعيتها، فإنه تغيب عنها قضية المياه التي أثبتت الأيام أنها "كعب أخيل" في تجربة الإصلاح الزراعي في اليمن كله.
ويشير طرابلسي إلى الأيام السبعة المجيدة، وهي مؤشر مهم لانحراف ثورة أكتوبر المجيدة عن مسارها التحرّري الوطني الديمقراطي؛ فالقيادة الآتية من الريف، ذات الانتماءات القبلية والمعادية للمدنية والمدينة والعمل السياسي، بسطت نفوذها في عدن، مستهينةً بالعملين، المدني والسياسي، فارضة خيارها الوحيد (العنف) الذي لولاه ما ذاب الحديد، كرؤية الشاعر علي مهدي الشنواح، وهو المعبّر عن الاتجاه القومي اليساري. وكان الزعيم الوطني اليساري سالم ربيع علي (سالمين) داعماً أساسياً لهذا الاتجاه المقصي للبرجوازية الصغيرة المدنية المتفتحة لصالح فقراء الريف المعزولين عن أي عمل سياسي أو ثقافي أو معرفي، والجوعى حد السحق، بل إن المثقف الأبرز عبد الفتاح إسماعيل غير بعيد عن هذه الرؤية.
توجّه بشرى المقطري سؤالاً ذكياً ومؤرقاً، ما إذا كانت قد صدرت بيانات من الأحزاب اليسارية لإدانة اغتيالات سالمين. ويكون رد فواز طرابلسي خجولاًوموارباً وهروبياً، وهو أن بياناً من اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي صدر، تبدي فيه قيادتها الأسف للحل العسكري للنزاعات الحزبية. ويتضمن سؤال بشرى الإجابة بإدانة كل فصائل اليسار، اليمني والعربي، التي كانت تتماهى مع العنف، أو تؤدلجه أو تبرّره وتسوغه، لأنه ضد المختلف. والسؤال "غير البريء" إدانة لنا جميعا بشهادة واحد وواحدة من أهلنا.

عن الحزبية والشمولية والوحدة
في ما يتعلق بالحزب الطليعي، كان هاجس تيار عبد الفتاح إسماعيل، بل هاجس اليسار كله، هو قاسم أعظم ومشترك. وكانت رؤية سالم ربيع علي تقوم على حزب في الجنوب وجبهة في الشمال، وكان اتحاد الشعب الديمقراطي في مطلع السبعينات أو منتصفها مع جبهة للشمال والجنوب، وكان الفقيد محمد علي الشهاري خير معبّر عن هذا الاتجاه في عديد من مقالاته.
كان عبد الفتاح إسماعيل (وصَفَّت معه بقية أحزاب اليسار) ميالاً إلى حزب طليعي، وإذا كانت وحدة فصائل اليسار الماركسي قد اتخذت طابع القسر في الجنوب، فإن وحدتها في الشمال تمت عبر حوار طويل ممتد وديمقراطي أيضاً، فلم تكن هناك سلطة إجبار مباشرة على الوحدة، كما يعرف الجميع، لكن الضغط قد تم عبر وسائل وأساليب خفية؛ فقيادات التيار الأقوى: التنظيم السياسي، والحزب الديمقراطي الثوري و"المقاومين الثوريين" كانت في عدن، وكانت تفرض خيار الوحدة، وتصعد خيار العمل العسكري، بالاستناد إلى النظام في الجنوب، كلما نشطت منظمات المدن في الشمال، تعز وصنعاء والحديدة. وتعطي للسلطة في صنعاء مبرر قمع المنظمات، فتغرق في السّرية والتطرف والهروب إلى عدن أو مناطق القتال.
ازدهار الحياة السياسية وازدهار المنظمات في مدن الشمال لا يزعج النظام الشمولي في الجنوب فقط، وإنما يزعج أكثر القيادات الشمالية هناك، والتي ترى أن الاحتفاظ بمواقعها القيادية مرهون بسيطرتها على المنظمات في الشمال، وهذا يتطلب انغماسها في العمل السري، وبقاء ديمومة حالة الطوارئ في الشمال، في ظل المواجهة المستمرة مع النظام القمعي في الشمال، وتقوية كفاح الجبهة الوطنية في الوسطى. وهذا لا يعني بحال التبرئة أو التقليل من أساليب السلطة الرجعية ومكائدها في الشمال، وكونها المسؤول الأول عن استهداف النظام التقدمي في جنوب الوطن، واستهداف اليسار والتيارات القومية والديمقراطية في الشمال، عبر الجيش والأمن المتعدّد الأسماء وتيارات الإسلام السياسي.
انتقاد فواز طرابلسي شمولية النظام التقدمي في الجنوب متواضع وخجول، وهي سمة مشتركة بين التيارات الماركسية في الوطن العربي كله حينها. وأذكر المشاركة في ندوة "الديمقراطية" في عدن بعد بيان الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، والتي كان من المشاركين فيها عبد الرحمن منيف، ومحمود أمين العالم، وعبد السلام نور الدين، وفواز طرابلسي وجوزف سماحه، وعصام خفاجي، ونشرت أبحاثها في مجلة النهج (عدد 30/ 1990)، وفيها ورقتي (تأويل مصطلح الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر)، ومن الرأي السائد حينها التعاطي بحذر مع التحولات في الاتحاد السوفييتي ومنظومة الاشتراكية، وكان مطلب المواجهة والإصلاحات يغطي على مطلب الديمقراطية في معظم الأبحاث والمداخلات مع وجود استثناءات.

ويشير طرابلسي إلى مشاركة عمر الجاوي في المفاوضات السياسية بشأن الوحدة اليمنية إلى جانب راشد محمد ثابت وجار الله عمر، والمعروف أن الجاوي استبعد نهائياً من كل تلك المشاورات السياسية، على الرغم من أنه أحد مهندسي دستور الوحدة والأكثر حماسا لها، بل إنه بكى ليلة إعلان الوحدة، لأنه كان يشعر بالمأزق الناجم عن الوحدة القائمة على التقاسم، وكان مع النظام الفيدرالي؛ فهو أصلاً لم يكن في الحزب الاشتراكي، ولا مع الاندماج بالطريقة التي اتبعت، ثم إنه أعلن عن ميلاد الحزب الوحدوي اليمني، قبل إقرار التعدّدية السياسية والحزبية، ليعبّر عن رأيه في أولويتها وأسبقيتها على الوحدة، وهو ما تضمنته رؤية حزب العمل عن الوحدة التي نشرت في ملف الوحدة في مجلة الحكمة (عدد 40/ يونيو/ حزيران 75).
أما بشأن الإشارة إلى ضعف دور الجيش الجنوبي في حرب 1994، فالواقع أن الصراعات بين الشمال والجنوب، وبين الجنوب والجنوب، وخصوصاً أحداث 13 يناير/ كانون الثاني 86 قد مزّقت الحزب الاشتراكي والجيش والمليشيا ودمرت التجربة. وكان الخوف بعد تلك الأحداث من الجيش الآتي من الضالع، والمنتصر في مواجهة محافظات أخرى، كان محل ريبة وشك من بعض القادة الجدد الذين فقدوا الثقة بأنفسهم وببعضهم؛ ففي أثناء نقل أهم الوحدات إلى الشمال، ووحدات من الشمال إلى الجنوب، جرى أمر محير ومريب؛ فالوحدات الجنوبية في الشمال بقيت مغلقة أمام الشماليين، بينما فتحت الوحدات الشمالية الموجودة في الجنوب، وخصوصاً في أبين، أبوابها أمام الانضمام إليها؛ فلواء العمالقة أصبح، قبيل الحرب، خمسة ألوية، وتولى حسم المعركة في عدن. الأمر الأكثر ريبة أن توضع الوحدات الجنوبية في عمران وذمار في مواجهةٍ مع الوحدات العسكرية الشمالية، وللأمر علاقة بشكوك قادة في "الحزب الاشتراكي" في ولاء هذه الوحدات، ثم إصرار بعض قيادات الحزب على رفض التصالح مع علي ناصر وجماعته، وهي الطرف الثاني في المعادلة، وقد لعبت دورا حاسماً في الحرب ضد الجنوب في 1994.
يتردّد كثيراً أن السؤال الذكي هو الذي يحدّد الإجابة، وقد وجدنا أنفسنا، نحن قراء كتاب "جنوب اليمن في حكم اليسار.. شهادة شخصية"، أمام أسئلة ذكية من المحاورة بشرى المقطري، وأجوبة من فواز طرابلسي لا تقل ذكاء؛ فالأسئلة والأجوبة تغطيان أهم جوانب تجربة حكم اليسار في جنوب اليمن، وهي رائدة ورائعة، حققت إنجازات وطنية عظيمة، أهمها طرد الاستعمار البريطاني من الجنوب. وحققت لوناً من المساواة بين فئات المجتمع وشرائحه، على الرغم من قسوة التطبيق وبداوته، والأهم فتحها الباب أمام كل الفئات والشرائح، بما في ذلك فقراء الريف والفلاحين و"الأخدام" للحصول على مواطنةٍ متساوية. حققت مجانية التطبيب، والتعليم، وقدراً من العدل الاجتماعي، واحترام المال العام، وتجريم النهب والفساد، ووحّدت اليمن، وساهمت في صياغة دستورٍ يقر، ولأول مرة في التاريخ اليمني، التعدّدية السياسية والحزبية، وحرية الرأي والتعبير (الحريات الصحافية)، واستقلال العمل النقابي والتنظيم الاجتماعي، واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة.
وأخيراً، هناك معلومات محدودة في الكتاب غير دقيقة، وقضايا بحاجة إلى تناول أوسع وأعمق.

2256160C-6818-4899-B456-40DAD5F2B2CB
عبد الباري طاهر

كاتب ومثقف وصحافي يمني، من رواد الصحافة في بلاده، مواليد 1941.