حكمة البقّالين

حكمة البقّالين

03 سبتمبر 2018
+ الخط -
يستعمل المثقفون والساسة، في النقاشات العامة والحوارات التلفزيونيّة العربيّة، بعض التعبيرات والمجازات التقليديّة، منها قولهم للقدح في فكرة ما، بخصوص الشأن السياسي، إنها "شُغل بقّالين"، للدلالة على ما يحويه الطرح المستنكر من حسابات المكسب والخسارة، المبتذلة في رأيهم. يُسبَق هذا القول، أو يُتبَع، بجملة تقليدية أخرى، وهي "طبعًا لا أحمل شيئًا ضد الباعة والبقالين، لكن المقصود...". استخدام مجازات بعض المهن (غالبًا يُذكر البقّالون والزبّالون والباعة المتجولون) للقدح في رأي سياسي أو ثقافي معين، أمرٌ شائعٌ في الثقافة السياسية العربية. ومن يفعل ذلك يحمل غالبًا شيئًا تمييزيًا ضد هذه المهن والمشتغلين بها، سواءٌ أبرّر ذلك بعبارات متوقعة في مواقف كهذه أم لا.
تجارب القوى السياسية في السنوات العجاف التي تلت الثورات العربيّة عام 2011، وتاريخ تحالف النظام العربي مع الولايات المتحدة الأميركيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي، تعلّمنا أمرًا أساسيًا، هو أن النخبة (الحاكمة والمعارضة) كانت تعوزها حِكمة البقّالين وصغار التُّجار، والتي تتلخّص في ثلاثة مبادئ: الحسابات بعيدة المدى للمكسب والخسارة، وعدم شخصنة الخلافات، وإمكانية القبول بالحلول الوسط. من المُفضّل أن يكون خلف هذه الحكمة، سياسيًا، قيمٌ وانحيازٌ أخلاقي، ولكن مع الغياب القاسي للأخير، كما اتضح في السنوات السبع الفائتة، كان المنقذ الممكن للبلدان العربيّة هو حساب القوى السياسيّة الدقيق لمصالحها، وأخذ معارك الشأن العام على محمل وطني عام قدر الإمكان، والتخفف من اعتبار الخلافات السياسيّة مسألة كرامة شخصيّة.
أي حساب عقلاني للمصالح كان سيقود النظام العربي نحو علاقات تحالفٍ أكثر توازنًا مع الولايات المتحدة الأميركيّة يقل فيها تركيز التبعيّة، ولا يشترط في تكوين علاقات كهذه ديمقراطيّة النظام؛ فالأنظمة قد تجمع بين الديكتاتوريّة والسياسات الخارجيّة الحكيمة والندّية، لكن قيادة النظام العربي لم تمسك ورقةً وقلمًا طوال أربعين عامًا لحساب مصالح الدولة، وفكّرت بمصالحها هي، على المدى القصير، طبقة حاكمة باعتبارها الدولة.
وعلى المنوال نفسه، أي حساب عقلاني للمكاسب والخسائر على المدى الطويل، في المرحلة الانتقاليّة بعد الثورات العربيّة، كان سيقود الأحزاب السياسيّة ونخب المثقفين إلى ضرورة
التفاوض في ما بينها، والوصول إلى حل وسط، ولكن في إطار المَطلب الثوري العام (وليس حلًا وسطًا بمقاييس القوى المعارضة المعهودة أو معايير النظام)، وهو حلٌ سيشتمل على أمرين حيويّين، أيًا كانت مضامينه: يُرسي أساسات النظام الديمقراطي القادم الذي سيسمح لها جميعًا، نظريًا، بأن تحكم وتصعد إلى السلطة، وسيحقنها بالقوة اللازمة للإجهاز على النظام القديم، عدوّها المشترك الأخطر، قبل أن يلتقط أنفاسه ويُجهز عليها. مُؤَكِّدُ وجاهة هذه الفرضيّة هو مآلات المتحالفين مع أميركا من العرب، ومآلات النخب الحزبيّة التي رفضت التوصل إلى حلٍّ يحفظ مصالحها والمصلحة العامة: في كل دول الثورات العربيّة، تخلّت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربيّة عن حلفائها المخلصين، دائمي التودّد، عندما لاح عجز أنظمتهم النهائي عن إخماد الانتفاضة، بل وأمعنت في إذلالهم، أشخاصا ورؤساء دول، حين رفضت أن تكون لهم ملاذًا ومنفىً، حين جاؤوا إليها هاربين من لهيب الثورات. أما القوى السياسية في مصر واليمن، والتي جعلتها جماجم الثوّار تقف أمام الأنظمة القمعيّة ندًا لنِد، بعد عقود من السحق والتفتيت المتواصلين، وفتحت أمامها الباب، لكي تتحوّل إلى أحزاب سياسية تبني دولًا، وتتنافس في ما بينها من أجل الوصول إلى السلطة، وتنفيذ برامجها، انتهى الحال بقياداتها وأعضائها إلى التشرّد في المنافي، والموت والتعذيب في المعتقلات، والمحظوظ منهم من تكرّمت عليه الثورة المضادة بحق السُّكوت، والانسحاب إلى الحيز الخاص. أما نخب المثقفين التي فتحت لها الثورة أبواب المجال العام على مصراعيه، لتأخذ مكانها المرموق في الحياة السياسية بعد طول تهميش، ولتفكّر وتنتج كما تشاء، فقد شرب قطاعٌ فيها من نهر الجنون في المرحلة الانتقاليّة؛ فحوّل المعارك الحزبيّة والاجتماعيّة بخصوص أفكارٍ وسياساتٍ مُحدّدة إلى حربٍ زبون، كل تفصيلاتها مُطْلَقَاتٌ، لا تعرف شيئًا اسمه التوافق أو المصلحة والعقلانيّة، وأجّجَ اتجاهات التطهير والإفناء في السياسة والمجتمع، وحقنها بمشاعر الثأر الشخصي، وها هو اليوم "يناضل" لتمرير مقالٍ أو فيلمٍ سينمائي.
قد يبدو هذا التذكير بالبدايات والمآلات شماتة، لكنه ليس كذلك. لسببين: أن هذه النهايات الحزينة كانت نتيجة ضعف كفاءة وقلة ذكاء، وهما عيبان يثيران التعاطف وليس الكراهية. وأن من استخدم نخبَ السياسة والثقافة في هزيمة الثورة والمجتمع، ثم دمّرتها لاحقًا أطرافٌ محدّدة ومعلومة، ارتكبت المجازر ونهبت المال العام، وهي المسؤول الأول عن الجرائم التي ارتكبت، وليس مَن استعملتهم. الغرض من التذكير بموجز المسار هو فتح الباب لنقاش المستقبل، وأول خطوةٍ هي إثبات الاستفادة من أخطاء الماضي الفادحة، وفتح صفحة جديدة لاستدراك ما فات، وبناء الثقة في ما بينها من دون ادّعاء براءة، ثم عودة النخب السياسية والمثقفين إلى التفكير والممارسة، وفقًا لأفق الثورة من جديد: الحرية والعدالة والكرامة، وأن يتناقش جميعهم حول الاستراتيجية الأفضل لمجابهة أنظمة الثورة المضادّة وبناء بديلها، ولكن هذه المرة بمستوى ذكاء سياسي أفضل، يستحضر حكمة البقّالين الغالية.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.