حكايتي مع ناجي العلي وأحمد مطر

حكايتي مع ناجي العلي وأحمد مطر

07 سبتمبر 2017

أحمد مطر وناجي العلي

+ الخط -
كانت الغرفة الصغيرة في الدور الثاني من مبنى صحيفة القبس في شارع الصحافة في الكويت تضم مكتبين صغيرين متقابلين، يستخدم أحدهما الفنان ناجي العلي ويستخدم الآخر الشاعر أحمد مطر.
بقي الشاعر والفنان في تلك الغرفة الصغيرة التي تفتقر لأي نافذة، لأنها مقتطعة أساسا من صالة التحرير الواسعة، سنوات طويلة. ولأصحاب الخيال الواسع أن يحلقوا نحو السماوات العلى، ليتخيلوا أي حوارات كانت تدور بين الشاعر الغاضب والفنان الأكثر غضبا، مع استحضار كل المتشابهات الأخرى بينهما، وأهمها الصراحة المطلقة والسخرية الفاقعة والقسوة اللافتة في التعبير والسخط الشديد على الأنظمة العربية الحاكمة والغربة التي كانت القدر النهائي تقريبا لكل منهما.
ترك الاثنان تلك الغرفة الصغيرة في الوقت نفسه تقريبا، متجهيْن قسرا إلى لندن في منتصف ثمانينات القرن الماضي، حيث تأبط ناجي العلي حنظلته، وتأبط أحمد مطر لافتاته ومضيا بطائرة النفي إلى الغربة المضاعفة في أوروبا.
ولأنهما بقيا على صلة بالكويت التي كانا يعلمان تماما أن نفيهما لم تكن رغبتها ولا سياستها، وبصحيفة القبس حيث استأنفا العمل في مكتبها في لندن، فقد قرّر مسؤولو الصحيفة يومها أن تبقى الغرفة التي تضم المكتبين على حالها، مع فترة بسيطة استخدمها فيها زملاء آخرون مؤقتا، ثم أغلقت على ذكريات علتها أتربة الزمن، لكنها قاومت النسيان بالأشعار والرسومات التي بقيت مفتتح الصفحة الأولى وختام الأخيرة للصحيفة.
لم أكن أعلم أن القدر الذي حرمني من لقاء ناجي العلي، كما كنت أحلم وأنا في المرحلة الثانوية، سيصالحني بحجز مكتبه لي لاحقا. وهكذا وجدتني عندما انتقلت، في نهايات العام 1993، من صحيفة الوطن التي كتبت فيها مقالي الأول عن ناجي العلي إلى العمل في "القبس" التي كانت آخر صحيفة عمل فيها ناجي، أجلس على مكتبه الذي أصبح الآن مكتبي.
عندما أخبرني عامل القهوة، وهو يضع قهوتي أمامي، أن المكتب الذي جلست عليه للتو هو مكتب المرحوم ناجي العلي، شعرت بقشعريرة انتهت بنوبة بكاء مرير، لم أكن أعرف كيف أشرح سببه. تذكّرت في تلك اللحظات عدة رسائل بريدية، تبادلتها مع الشاعر أحمد مطر في منفاه في أثناء السنة الأولى لعملي الصحفي. كانت إحداها على شكل إهداء سطّره بخطه الجميل جدا على الصفحة الأولى من مرثيته الغاضبة الشهيرة لرفيق مكتبه وغربته ومنفاه ناجي العلي، والتي صدرت يومها بكتاب عنوانه "ما أصعب الكلام".
عندما عدت لاحقا إلى ذلك الكتاب الذي ما زلت أحتفظ به، كأحد أقيم الكتب وأغلاها في مكتبتي، وجدته قد كتب لي ما يشبه الوصية:
"الذكية الصادقة سعدية مفرح..
احذري أن تعتقدي بأنني أرثي ناجي بهذه "المشاجرة" الموزونة.
ناجي هو أبعد عربي عن الرثاء. إنني هنا.. أرثينا! أمضي قدماً، ولا تتوقفي، ولا تنحني كي تمر العاصفة، تلك تعزية الجبناء لأنفسهم في زمن العواصف.
وهم في بلادنا كثيرون إلى حد لا يغري بإضافة رقم جديد إليهم.
سمعتِني؟ لك محبتي، أحمد مطر، لندن 9/9/ 1988".
هل سمعته؟ هل نفذت وصيته؟ لست متأكدة. لكنني متأكدة أنني حاولت دائما وسأبقى أحاول. على الأقل حتى لا يشعر أحمد مطر بالندم، عندما يتذكّر أنه كتب إهداء كذلك الإهداء لفتاةٍ كانت للتو قد بدأت رحلتها مع الكتابة.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.