حكاية الفيل والدرفيل

حكاية الفيل والدرفيل

12 مارس 2019
+ الخط -
ما الذي يعنيه أن يحكي عبدالفتاح السيسي أي شيء، سوى الاندهاش. لا يحتاج السيسي إلى قدرات سردية مفارقة، أو حبكة درامية، أو أيٍّ من أنواع الإجادة، لينتزع الدهشة من القلوب والعقول والأعين، ليس عليه إلا أن يحلف بالله ثلاثاً، ثم يحكي لك كل ما لم يحدث باعتباره قد حدث، وكل ما حدث باعتباره لم يحدث. الشعب المصري عاطفي ويحترم الحلف، هكذا يخبرونهم قبل التصدّر لحكم مصر، كلهم يتحدث بعاطفيةٍ، وكلهم يحلف، ولكن ليس مثل السيسي. الحق أن الرجل ضرب الرقم القياسي في الحلف كذباً، حتى إنه يحلف على أحداثٍ رآها العالم كله على الهواء مباشرة، وما زالت مقاطع الفيديو بالمئات على "يوتيوب" تشير إلى غير ما يحلف عليه السيسي، لكنه يحلف. لا يجد غضاضةً. المصريون ينسون ويصدّقون، وإذا كان على ربنا، فعلي جمعة موجود!
لا أعرف بالضبط ما علاقة يوم الشهيد بالكهرباء والغاز الطبيعي وتكلفة رغيف العيش، وسؤال السيسي: "الناس بتموت وأنتوا عايزين تاكلوا"؟!، يبدو الخطاب الجديد وكأنه وصلة تعليق على مباراة كرة قدم، تليها مباراة ملاكمة للمعلق نفسه. هذا هو المشهد الكوميدي الذي أدّاه جورج سيدهم وعاش في ذاكرتنا، ليحكي لنا حكاية الفيل ثم حكاية الدرفيل. التواطؤ بين المشاهد وجورج كان الباعث الدائم على الضحك، كلما تكرّر المشهد. أما الآن فلا يمكن لمشاهدٍ يحترم نفسه أن يتواطأ مع السيسي، حتى لو كان مؤيداً له، إذا افترضنا أن ثمّة من يجمع بين تأييد السيسي واحترام النفس، ذلك أن أحداث شارع محمد محمود لم تترك فرصةً لرواية الدولة، حتى ثورة يناير، بأيامها الثمانية عشر، لم تحظ بكل هذا القدر من الوضوح، كان الجيش يقتل وينهال على المتظاهرين ضرباً، وركلاً بالهراوات والبيادات، أمام الكاميرات، عيني عينك، فأي حلفان، وأي تزوير، وأي علي جمعة، يمكن أن يحميك في الدنيا قبل الآخرة، وأي ثقةٍ تلك التي يحظى بها الكاذب، وهو يدّعي أن السماء تمطر برتقالاً، وهو يتصور أن ثمة من يصدّقه؟!
لم يكن في شارع محمد محمود متظاهر عاديّ. كنت المسؤول عن استوديو البث لقناة سي بي سي، الشاشة المصرية التي نقلت الحدث كاملاً. لم أفهم وقتها لماذا ينقلونها بكل هذه الشفافية، التي لم تدم إلا يومين، قبل أن يتدخل الأمن بالحذف وتعديل المسار. كل ما نقلتُه حملته الشاشة، كل من استضفتهم من المتظاهرين ظهروا، كل ما قلناه سمعه الناس. الأغرب أن لميس الحديدي علقت وقتها على ما ترى وتسمع، وقالت بالحرف إن ما يحدث من الجيش في "محمد محمود" عار عار عار. وشتمها عزمي مجاهد على شاشة أخرى، فأين يذهب السيسي من شهادات مؤيديه في "محمد محمود"، وأين يذهب من عاره؟ قد يحذف الفيديو، لكن أنّى له أن يحذف ذاكرة ملايين المشاهدين؟!
يتحرّك السيسي تحت غطاءٍ من التأييد المطلق، والتعتيم المطلق، تأييد المؤيدين الذين لن يسألوه عمّا يفعل أو يقول، ولو أخبرهم عن أنفسهم ما ليس فيهم، سيصفقون وكفى، وتعتيم الإعلام الذي فقد مع السيسي أدنى مقومات العقل والمنطق و"الصنعة"، ولم يعد يعنيه أن يفعلها باحترافيةٍ لكي يصدّقه بعض الناس، فلم تعد رواية الدولة من مستهدفات الخطاب الإعلامي، إنما من مقرّراته وفروضه، هذا هو الموجود، صدّق أو احترق بغاز!
يسألني صديقي: ما الذي يعنيه رفض التعديلات الدستورية والحال كذلك؟ المقاطعة أكثر واقعية، فأقول إن الحال يتغيّر، الظروف تتغيّر. حاجة السيسي إلى الكذب، حتى الآن، لا تعني سوى الخوف من التغيير، فلا يكذب سوى خائف. مراكمة الأكاذيب تخنق الآذان، فلا تقوى على مزيدٍ من السمع، الإصرار على التمسّك بالحق في التصويت، وعدم اليأس من الفعل السياسي، كما يريدون لنا، يعني التمسّك بالمستقبل، شرعية وجودنا الحقيقية هي المحاولة، سيحلفون وسيكذبون وسنحاول.