حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين

حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين

25 اغسطس 2015
الحرب الأهلية اللبنانية (Getty)
+ الخط -
في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، تنتهي الحرب الأهلية، بعد 15 عاماً ونصف العام على اندلاعها (13 أبريل / نيسان 1975). مقاتلون ينتسبون إلى مليشيات مسيحية متفرّقة تتوحّد في "القوات اللبنانية" (تتأسّس في العام 1976، وتُحكِم قبضتها على المناطق الشرقية المسيحية عام 1980). الإيديولوجيا حاضرة. الالتزام المسيحي، دينياً وثقافياً وتربوياً، حاضرٌ بدوره. في أعوام لاحقة، تنكشف حقائق أبرزها غرق قيادات مسيحية كثيرة في فساد ورشى وصفقات تجارية وسياسية وأمنية مختلفة. مقاتلون عديدون ينسحبون من المشهد كلّياً. يختفون أعواماً طويلة. لا يريدون شيئاً، بعد "انكسارهم" أمام نزاعات مسيحية ـ مسيحية، ركيزتها الأولى مصالح متنوّعة لقيادات مختلفة، لا تخلو من السياسيّ والماليّ معاً. مقاتلون يُضحّون بأمور كثيرة من أجل المحافظة على "المجتمع المسيحي" و"الوجود المسيحي" في الشرق الخاضع برمّته لـ "أنظمة إسلامية"، لكنهم يجدون أنفسهم "مشرّدين" بعد سقوط أقنعة كثيرة عن وجوه زعماء سياسيين وعسكريين وأمنيين.

سرّ الاعتراف

تقديمٌ، مختصرٌ لا بدّ منه. مقاتلون مسيحيون قليلون يجدون في البوح نوعاً من تطهّر ذاتيّ، روحياً ونفسياً على الأقلّ. البوح جزءٌ من تربية ومسار مسيحيين، دينياً واجتماعياً وثقافياً. البوح يتمثّل باعتراف، والاعتراف سرّ من أسرار الكنيسة المسيحية (سرّ الاعتراف)، يليه "فعل الندامة". يلتزمهما كلّ مسيحيّ مؤمن وممارس إيمانه وشعائر الإيمان. هذه خطوة أولى، تدفع مقاتلين مسيحيين قلائل إلى الاعتراف. الخطوة الثانية متمثّلة في "هزيمة" المشروع المسيحي. في لحظة ما، يريد هؤلاء الاغتسال، فيجدون في البوح أداة للقول. اعترافٌ يليق بمن لديه تجربة التزام واضح وصريح وحقيقي بعقيدة أو إيديولوجيا، هما نواة أساسية لسلوكٍ قتاليّ أثناء الحرب الأهلية، أو خلال الأعوام القليلة الأولى منها على الأقلّ. يريدون بوحاً لن يكون أقلّ من اعتراف بـ "سيرة مقاتل"، ولن يظلّ أسير "جَلد الذات" في وقت واحد. بوحٌ هو بمثابة مزيجٍ من سرد وقائع مستلّة من تجربة فرد، ومن حقائق يُدركها الفردُ هذا، ومن رغبة أصيلة في تقديم التجربة الفردية إلى الآخرين، ليس من منطلق تعليمي ـ تدريسيّ، بل انطلاقاً ـ "لا واعياً" ربما ـ من رغبة في الاعتراف، و"تصحيح" مغالطات يراها هو مُسيئة إلى تجربته القتالية، وعقيدته الإيديولوجية الدافعة به إلى القتال.

اقرأ أيضاً: سينما الحرب الأهلية اللبنانية.. حضور الأهل

رغم هذا كلّه، قليلون هم المقاتلون المسيحيون الذين يعترفون ويقولون ويبوحون، فيكتبون أو يروون شيئاً منهم ومن اختباراتهم المختلفة في نصوص أو أمام كاميرات وثائقية. قليلون هم الذين يُمكن الاستناد إلى سِيَرهم تلك في صناعة حكاية "حقيقية" عن الحرب تلك، عبر السينما أو النصّ الأدبيّ؛ فهم يقولون شيئاً من ذاكرة فردية تكون واجهة لذاكرة جماعية ما أيضاً، ومن قصّة حربّ أهلية، ومن انشقاقات وتمزّقات، ومن مفهوم تربوي يُدرِّب على نبذ الآخر وكرهه، قبل التعرّف إليه وبناء علاقة ندّية بينهما. مثلٌ أوّل عن فيلمٍ مستوحى من حقائق العيش في بؤر الموت والعنف والتمزّقات الداخلية: "معارك حبّ" (2004) لدانيال عربيد. فيلمٌ يكاد يكون أول عمل سينمائي روائيّ طويل يتوغّل في أعماق النسيج الاجتماعي المسيحيّ اللبناني، زمن الحرب الأهلية؛ وأول صورة حسّية لحقائق العيش في بيئة اجتماعية ـ دينية ـ ثقافية، زمن الانخراط المدمِّر للحياة اللبنانية. مثلٌ ثانٍ: "رصاصة طايشة" (2010) لجورج هاشم. على خلفية قصّة حبّ مبتور بين شابٍ وصبية في العام 1976، يلتقط الفيلم شيئاً من أنماط التفكير المسيحي إزاء الحرب وبداياتها، وتجاه أطراف أخرى لبنانية وفلسطينية. مادة درامية مستلّة من الواقع المُعاش، لكنها لا تضع مقاتلين أمام الكاميرا.

الوثائقيّ مرآة ذات وبوح

هذا على مستوى الفيلم الروائيّ. بعض الأفلام الروائية التي تتناول الحرب الأهلية وزمنها ومنعرجاتها وعناوينها ومفاصلها وتأثيراتها، يستلّ مواضيعه من حقائق ووقائع، لكنه يُقدّمها في إطار روائيّ بحت. الوثائقيّ أقرب إلى البوح. تقنياته وآليات اشتغالاته محصورة بقول مباشر. هذا تأريخ وأرشفة، وتحصين لذاكرة يُفترض بها ألّا تندثر. مقاتلون مسيحيون يقولون أمام كاميرات وثائقية مختلفة أشياء منهم ومن حكاياتهم. مقاتلون منتمون إلى أحزاب ومليشيات أخرى، كـ "حركة أمل" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي"، و"الحزب الشيوعي اللبناني" مثلاً، يظهرون، وإن قليلاً للغاية، في لقطات وثائقية متفرّقة، ضمن أشرطة لم يُروَّج لها كثيراً. هؤلاء الأخيرون يقولون اعترافات تبقى مؤطّرة في مفهوم واحد: مواجهة الطرف الآخر بما لديه من قناعات. المقاتل المسيحي يجد في الاعتراف ما هو أبعد وأعمق من مجرّد سرد حكايات. أشرطة عديدة تظلّ مهمَّشة، ربما لأنها مُنتجة من قِبَل جمعيات أهلية، أو لكونها أفلام تخرّج جامعيّ. السينمائيون المحترفون لم يتطرّقوا كثيراً إلى مسألة الاعتراف المسيحي. أساساً، يحتاج مقاتلون مسيحيون إلى زمن طويل قبل اعترافاتهم. يحتاجون إلى منعطفات جذرية وقاسية في مسار الحرب الأهلية، كي ينتبهوا إلى أهمية الاعتراف المسيحي.
دانيال عربيد نفسها تُحقِّق، في العام 2000، وثائقياً بعنوان "وحيدة مع الحرب". جزءٌ أساسيّ منه منصبٌّ على سيرة مقاتل مسيحي. ليس اعترافاً، بل ما يُشبه سرداً عفويّاً لحكايته الذاتية في الحرب وعلى هامشها لاحقاً، لارتباطه بها وبمنعرجاتها، ولخرابه الذاتيّ، ولإيمانه الدائم بمعتقداته الثابتة التي تدفعه، ذات يوم، إلى الانخراط في حزب "الكتائب اللبنانية" ومليشياته اللاحقة. جان شمعون ـ الذي يُحقِّق في العام 2000 فيلمه الروائي الطويل الوحيد "طيف المدينة"، متناولاً فيه فصولاً مختلفة من سيرة الحرب نفسها ـ يُنجز وثائقياً بعنوان "بيروت: جيل الحرب" (1989)، يَظهر فيه مقاتل مسيحي يروي بعض ذاته: يحمل السلاح في صفوف المليشيا القواتية "للدفاع عن الحيّ الذي أسكن فيه". لا يملك التزاماً ثقافياً أو سياسياً أو إيديولوجياً. يقول بعض ما يعيشه على خطوط المواجهة المباشرة مع الطرف الآخر "العدوّ". بالإضافة إليهما، هناك شريط وثائقيّ إشكاليّ بعنوان "مَقَاتِل" (2005)، يُحقّقه الثلاثيّ لقمان سليم ومونيكا بورغمان وهيرمن تيسن. إشكاليته نابعةٌ من مضمونه. يتوصّل فريق العمل إلى لقاء مقاتلين قوّاتيين مُشاركين في مجزرة المخيّمين الفلسطينيين شاتيلا وصبرا في بيروت (16 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 1982)، التي يُنفّذها مليشياويون مسيحيون بإشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي المتوغّل في لبنان بدءًا من 6 يونيو 1982. مقاتلو الفيلم الوثائقيّ يروون شيئاً من فعل القتل. يذهبون بعيداً في سرد أفعالهم الدموية. يعترفون، وإن لم يُظهروا ندماً أو تراجعاً أو نقداً ذاتياً. هذه حرب، وعليهم خوضها بأشكالها المختلفة. هؤلاء "أعداء"، وعليهم محاربتهم والانتصار عليهم. كلام قاس قيل، لكنه حقيقيّ.

مُكاشفة ناقصة

أسعد شفتري، نائب الرئيس السابق لـ "جهاز الأمن القومي" في "القوات اللبنانية"، يُصبح "بطلاً إعلامياً" منذ 10 فبراير / شباط 2000، اليوم الذي ينشر فيه "رسالة اعتذار" في الصحيفة اليومية اللبنانية "النهار"، موجّهاً إياها إلى كلّ من تعرّض لأذية بسببه. يظهر في حلقات تلفزيونية، وفي مقاطع فيلمية. لكن "ليال بلا نوم" (2012) لإليان الراهب يُصبح صورته شبه المتكاملة، لأنه مرتكز على حكايته الشخصية، انطلاقاً من ملف المفقودين والمخطوفين (يُقدَّر عددهم بنحو 17 ألف شخص لا يُعرَف أي شيء عن مصائرهم لغاية الآن)، عبر حكاية المقاتل الشيوعي الشاب ماهر، المفقود أثناء معركة الشويفات بُعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. يقول أشياء عنه، لكن بتحفّظ كبير. رجل أمن هو، لذا يصعب "استجوابه". يقول ما يُريد، ويبوح بما يراه مناسباً. يرتكز على مسألة أساسية: لا قوانين تحمي، ولا مؤسّسات تكشف وتُطارد وتحاكم وفقاً لقوانين واضحة وصريحة. أما الأطراف الأخرى فـ "صامتة"، وهذا سببٌ إضافي بالنسبة إليه كي لا يوقع نفسه في مصيدة "الاعتراف الكامل".
هذه نماذج مستلّة من أرشيف خفر، يحتوي على أعمال بصرية قليلة معنية باعترافات مقاتلين مسيحيين. هذه شهادات مُصوَّرة تبقى بمثابة تأريخ متواضع لجزء من الحرب الأهلية اللبنانية، بأصوات بعض المتورّطين فيها. أهميتها، من بين أمور عديدة أخرى، كامنة في أنها صادرة عن مقاتلين مشاركين فعلياً في القتال والحروب والعنف الدمويّ، في حين أن الزعماء السياسيين صامتون، والقادة العسكريين والأمنيين غائبون، والقيادات الثقافية والفكرية والحزبية مستسلمة لعزلاتها. قلّة من إعلاميين وسياسيين مسيحيين تروي فصولاً من النزاعات، لكن بلغة سياسية تحليلية، وإن تتضمّن شيئاً من اعتراف وتوبة ومراجعة ذاتية، أبرزهم جوزف أبو خليل (رئيس تحرير جريدة "العمل" الكتائبية، ومستشار قادة حزب "الكتائب اللبنانية") وكريم بقرادوني (أحد قادة الحزب نفسه أيضاً).

(كاتب لبناني)

المساهمون