حقيقة الدور الإماراتي في المنطقة

حقيقة الدور الإماراتي في المنطقة

21 اغسطس 2020
+ الخط -

يمكن إيراد ملاحظات كثيرة على الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي، أو "الإعلان المشترك" الذي أصدره البيت الأبيض، في 23 من شهر أغسطس/ آب الجاري، بعد مكالمة هاتفية جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. باختصار، كلها كارثية بحق القضية الفلسطينية، والأمن القومي العربي، وهي تمثل هدايا مجانية لترامب ونتنياهو، وهو أمر فَصَّلَ فيه كثيرون. لكن، ثمّة ما هو أخطر من ذلك كله، ويتعلق بالإطار الأعم والأشمل للدور الذي تلعبه الإمارات، عربياً وإسلامياً، ويندرج ضمنه الاتفاق، والذي يجعل من محاولة إعادة صياغة المنطقة، دينياً وثقافياً، وتعويم هويتها وتفكيكها، وإعادة تعريف مصادر التهديد فيها، هدفاً أسمى له. ولمن أراد دليلاً على ذلك يكفيه أن يعود إلى الاسم الرسمي الذي أعطي له: "اتفاق أبراهام". ويفسّر السفير الأميركي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، سبب التسمية بقوله إن أبراهام (إبراهيم) هو "أب الديانات الثلاث العظيمة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ولا يوجد شخص أفضل من إبراهيم يرمز إلى إمكانية الوحدة بينها".

ليست المشكلة في نقطة الارتكاز المرجعية التي يمثلها إبراهيم، عليه السلام، لأتباع الديانات الثلاث، بقدر ما أنها في كيفية توظيف ذلك هنا. خذ، مثالا على ذلك، حصر الإعلان المشترك مسألة القدس في السماح بزيارة المسلمين "المسالمين" المسجد الأقصى والصلاة فيه. ما يعني قبول الإمارات، ضمنياً، بالاعتراف الأميركي بالمدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل وسيادتها عليها، مع إعطاء حقوق دينية محدودة للمسلمين، وهو ما تشدّد عليه خطة ترامب للسلام، التي أُعلن عنها مطلع العام الجاري، ويستند إليها الإعلان المشترك إطاراً للحل. 

يمثل اتفاق الإمارات مع إسرائيل تكثيفاً لمساعيها الرامية إلى تفكيك هوية المنطقة وتمييعها

في السياق الأوسع، تميط وثائق ويكيليكس الأميركية المسرّبة عام 2010، في جانب منها، اللثام عن جهود بن زايد وبطانته، منذ عام 2007، لتسويق الإمارات لدى الأميركيين، دولة "معتدلة" في المنطقة مقابل السعودية المحكومة بمذهبٍ فقهيّ متشدّد. كان ذلك قبل اختراق بن زايد السعودية نفسها، ونجاحه في إقناع ترامب بدعم محمد بن سلمان ملكاً قادماً. على أي حال، تكشف غير وثيقة مسرّبة حينها نقداً حادّاً من بن زايد، وشقيقه، وزير الخارجية، عبد الله بن زايد، لحكام السعودية والإخوان المسلمين وإيران، على أساس أنهم يمثلون الوجه المتطرّف للإسلام. وفي السنوات الأخيرة، أضيفت تركيا وقطر. كما لا يمكن عزل استقطاب الإمارات الشيخ الموريتاني الأصل، عبد الله بن بيه، وإنشاء مجلس حكماء المسلمين، عام 2014، لمنافسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والذي كان يرأسه وقتها الشيخ يوسف القرضاوي، وكان بن بيه نائباً له، عن هذا السياق. 

تميط وثائق ويكيليكس اللثام عن جهود بن زايد وبطانته، منذ 2007، لتسويق الإمارات لدى الأميركيين، دولة "معتدلة" في المنطقة، مقابل السعودية المحكومة بمذهبٍ فقهيّ متشدّد

ومنذ ذلك الحين، نشطت الإمارات في لمِّ شعث رموز محسوبة على التصوف، كشيخ الأزهر أحمد الطيب، واليمني حبيب الجفري، والأميركي حمزة يوسف. كما عملت في خط مواز على إنشاء ودعم مؤسسات وشخصيات لا تتردّد في التشكيك في ثوابت الإسلام وإثارة البلبلة حول عدد من معتقداته. ولعل مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والتي مقرّها في الرباط، ولها فروع ومكاتب في دول عربية أخرى، أوضح مثال على ذلك. وقد كشفت الرسائل المسرّبة من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، في يونيو/ حزيران 2017، أنه كان ينسق مع منظمات صهيونية يمينية متطرّفة، كـ"مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (The Foundation for Defense of Democracies)، وشخصيات أميركية مسلمة محسوبة على التصوّف، للضغط على إدارة ترامب لتصنيف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، ثمَّ اتهام جلَّ المؤسسات الإسلامية الأميركية بالارتباط بها وإغلاقها، وذلك بغرض إحداث فراغ تملأه الشخصيات التي تدعمها الإمارات، ويرضى عنها اللوبي الصهيوني. 

يتباهى المسؤولون الإماراتيون بالأدوار العسكرية التي أدّوها، خصوصاً عبر سلاح الجو، إلى جانب قوات التحالف الأميركي، في أفغانستان وسورية، وغيرهما

ينسحب الأمر نفسه على "مؤتمرات التسامح" التي عقدتها الإمارات، ودعت إليها بعض أشد متطرّفي الصهاينة الأميركيين ومؤسساتهم، كما جرى أواخر عام 2018، في "منتدى تعزيز السلام"، في أبوظبي، والذين جلسوا جنباً إلى جنب مع مشايخ دين مسلمين ليدينوا "التطرّف" و"الإرهاب"، وهذان لا يكونان إلا إسلاميين! ومعلوم أن بن بيه، في زيارات له إلى الولايات المتحدة، لم يتردّد في لقاء قادة المنظمات الصهيونية والحوار معهم. ومن ثمَّ، فإن إعلان أبوظبي، العام الماضي، نيتها بناء أول كنيس يهودي وتعيين حاخام له، في سياق "عام التسامح"، بالإضافة إلى كل ما سبق، لا يعبّر عن انفتاح ديني واستيعابٍ للآخر، بقدر ما أنه يمثل تأسيساً لتحالفٍ صلبٍ مع الحركة الصهيونية، يرمي إلى تقديم الإمارات عنوان الانفتاح في المنطقة. 

ينبني على ما سبق بعدٌ آخر، عملت الإمارات على تسويقه، أميركياً، أنها المعادل الموضوعي لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، لناحية أنها "حليفٌ موثوق" متماهٍ مع الولايات المتحدة وأجندتها. ودائماً ما تباهى المسؤولون الإماراتيون بالأدوار العسكرية التي أدّوها، خصوصاً عبر سلاح الجو، إلى جانب قوات التحالف الأميركي، في أفغانستان وسورية، وغيرهما، ضد حركة طالبان وتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). ولا يدع الإعلان المشترك مجالاً للشك في هذه المسألة تحديداً، إذ يوضح أن تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل سيعزّز الترابط بين اثنين من أكثر الشركاء الأميركيين موثوقيةً وقدرة. وبالتالي، ستتمكّن الولايات المتحدة، بمساعدة الطرفين، من "إطلاق أجندة استراتيجية للشرق الأوسط لتوسيع التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني". 

إعلان أبوظبي نيتها بناء أول كنيس يهودي وتعيين حاخام له، لا يعبّر عن انفتاح ديني واستيعابٍ للآخر، وإنما يمثل تأسيساً لتحالفٍ صلبٍ مع الحركة الصهيونية

ويشدّد الإعلان على أن الدول الثلاث تشترك في نظرتها إلى التهديدات والفرص في المنطقة. أما عن نوعية التهديدات والفرص، فقد لمّح إليها ترامب، في مؤتمره الصحافي بعد إصدار البيت الأبيض الإعلان المشترك، إذ أشار إلى خطابه في الرياض، في مايو/ أيار 2017، في القمة العربية/ الإسلامية - الأميركية، وقال فيه إن مشكلات الشرق الأوسط لا يمكن أن تحل إلا عندما يتوافق أتباع الديانات المختلفة على محاربة "التطرّف الإسلامي"، وإيجاد فرص اقتصادية للجميع، واحتواء إيران وعزلها. ولم يتردّد ترامب حينها بالمجاهرة برغبته في إدماج إسرائيل ضمن معادلة المنطقة الأمنية، حيث أعلن أن "ما حدث مع إيران قرّب أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط إلى إسرائيل". 

باختصار، يمثل اتفاق الإمارات مع إسرائيل تكثيفاً لمساعيها الرامية إلى تفكيك هوية المنطقة وتمييعها، عبر محاولة إلغاء الإسلام والعروبة ناظميْن لتلك الهوية. وما محاولات وأد الثورات العربية، ونسمات الحرية والديمقراطية في المنطقة، وإثارة القلاقل في غير دولةٍ عربيةٍ، والعمل على تفكيك بعضها الآخر، فضلاً عن تلك الحملة المبرمجة على السنة النبوية، بل وحتى القرآن الكريم، إلا محطات في نسق تلك الجهود. محاولات الانتقاص والتشكيك بالقرآن والسنة، المدعومة إماراتياً، مسألة تحتاج وقفة أخرى.