حفيدتي وكونديرا

حفيدتي وكونديرا

09 سبتمبر 2014
غيلان الصفدي / سوريا
+ الخط -

منذ بداية الثورة في سوريا حتى اليوم، لم ألتقِ برجل أو امرأة إلا وحدّثني، أو حدّثني، عن "الصداقات المنتهية"، التي تحولت سريعاً إلى قطيعة شاملة، بينه أو بينها، وبين صديقه أو صديقتها، من الذين كانوا الأقرب روحياً إلى قلبه أو قلبها، وعقله أو عقلها.

ومن الصعب إعادة ترتيب طبيعة النقاش أو الحوار الذي سبق تلك القطيعة، إذ هو يتبدل أو يتغير، بتبدل أو تنوع الثنائي المشارك فيه. وسوف يحسب المرء أنه يزور اللغة حين يتحدث عن نقاش أو حوار، أو حين يشير إلى تنوع وتعدد. والمرجح أن استخدام اللغة في تلك "النقاشات" كان مستمداً من لغة الحرب، ربما أبكر من الوقت الذي بدأ فيه استخدام السلاح في المواجهة مع النظام. لغة مشحونة بالأسلحة الفتاكة الساعية إلى الانتصار في موقعتين: إسقاط ذرائع الخصم (الذي كان صديقاً)، ورفع قيمة الذات أخلاقياً وإنسانياً. ولهذا فإن "النقاش" الذي أشير إليه ينبغي أن يوضع دائماً بين قوسين، لكي أثير الشك والريبة في فحواه. ومثله الكلمات الأخرى التي بدأت تخون معناها، كالتنوع والتعدد وغيرها.

الطريف أن "الحياة السياسية" و"الثقافية" في سورية شهدت قبل الثورة ببضع سنوات، اجتياحاً وبائياً لمقولة هي "الآخر والرأي الآخر". ولن نلتقي في تلك السنوات صحافياً أو مثقفاً دون أن نسمع ترداداً ناقوسياً مفزعاً لمقولة احترام الرأي الآخر، بينما كانت المقولة تتحول إلى طور الشرنقة القاتلة التي تسعى إلى خنق الخصم، أو إعدامه فكرياً وثقافياً، لأن الرأي الآخر هو رأيي أنا وحدي، ولا وجود لأي آخر غيري. أما المقولة فقد نُزِع اللحم عنها، وجُفِّفت في حرارة فرن معدّ لطبخ المعدات مسبقة الصنع.

واللافت أن هذا الانشقاق طال الكثير من أولئك الذين كانوا في الظل أيضاً، أي الأصدقاء الذين كانوا خارج الأيديولوجيات والأحزاب السياسية، وأن "النقاش" في ما بينهم حول الانضمام للثورة، أو الولاء للنظام، سار في الطريق ذاتها التي خاضها فيه السياسيون والعسكريون، والذين حملوا السلاح في ما بعد، واتسم بالحرد المتبادل والنفور، في البدايات، ثم تحوّل إلى عراك لا شهامة ولا نبل فيه، جعل بعض "الأصدقاء" يشون بأصدقائهم إلى الجهات الأمنية مثلاً، حين لم يكفهم النزاع الفكري في الشفاء من عجزهم عن إقناع الصديق، أو في تسفيه آرائه. لكن ليس من العدل هنا المساواة بين الاثنين، إذ ما زال لدى المؤيدين وحدهم هذه القوة المادية لدحر الصديق الذي اتخذ طريق مناصرة الثورة.

وسريعاً بدأت تظهر تجمّعات جديدة لأصدقاء اللون الواحد، وبات الانقسام الشاقولي أفقياً، يعيد فيه المجتمع من جديد "شقلبة" الأمور، وهذه مفردة تحاول إزاحة كلمة "ترتيب" ذات البعد العقلاني، بحيث يستطيع الناس الاستمرار في حياتهم وفق التبدلات العميقة التي مست حياتهم في الصميم. وهي حالة نفسية بديلة لا تعيد إنتاج الجديد في مفهوم الصداقة، بقدر ما تقدّم خدمة للأمل، أو تستجيب للنزعة الإنسانية البسيطة في الاجتماع والعيش بعيداً عن تعقيدات المفاهيم.

ولست على يقين من أن القول الذي يتردد اليوم بين أصدقاء الماضي، أعداء اليوم، بأن ما مضى لم يكن صداقة، صحيح. إذ لا دليل لدينا على أن أحد الطرفين كان منافقاً وحده. لكن يمكن القول إن البنية الاجتماعية السورية، أو المجتمع نفسه كان مرائياً. وهو استنتاج يقارب الحقيقة بحيث يمكن من خلاله وضع كلا طرفي الصراع في المجال الاجتماعي ذاته.

والمرجح أن أفراد المجتمع الذين كانوا شبه مدفونين في غياهب القهر وكم الأفواه وغياب الحرية والتعبير، ارتأوا أن التسليم بصداقات مؤقتة، لا تحتاج للبحث أو التدقيق في جواهر الحياة، أمر يضمن السلام بين الأصدقاء. ربما لم يكن أحد يسلك هذا النهج عامداً، وإنما كان سلوكاً غرائزياً يساند العيش البسيط، حيث يسود نوع من المجاملة التجارية التي تتكئ إلى رياء لفظي، ومداهنة لغوية، تضمن الحماية من احتمالات الصراع. أما حين بدأت الثورة فكان على كل شخص في المجتمع السوري أن يعلن موقفه. (وقلما يعتد بأولئك الذين أطلق عليهم في الإعلام اسم الرماديين، فهو موقف مسجّل حُسِب في نهاية الأمر). وفي تلك الإعلانات الجهيرة، حدثت هذه الانشقاقات الكبرى.

ذات يوم اكتشفت المدرسة أن بُنيّة صغيرة في الصف الثاني مصابة بالقمل، فعولِج الأمر سريعاً، وشفيت البنت، لكن رفيقاتها امتنعن عن رفقتها، عدا حفيدتي، التي عبّرت عن استيائها من هذا المسلك المهين. وحين أعلنت والدتها عن خشيتها من العدوى، سألتها بحزم: ماما، هل الصداقة أهم أم القمل؟

كونديرا يكتب عن الموضوع من باب آخر، فيقول: إن الجرح الأكثر إيلاما هو جرح "الصداقة المنتهية"، وليس هناك حماقة أكبر من التضحية بالصداقة من أجل السياسة؛ وإن انتهاء تلك الصداقات يشير إلى أن العديد من الناس يعتبرون الكفاح السياسي أسمى من الحياة الواقعية والفن والتفكير.

ليس من المؤكد أن يكون هذا الكلام مطابقاً للوضع في سوريا، إذ لو كان كذلك، فسيكون ثلاثة أرباع السوريين حمقى. ولكن ماذا لو كانت صداقات السوريين قد انتهت بسبب الحياة الواقعية، وليس بسبب السياسة، ولا بسبب القمل؟

* كاتب من سوريا

المساهمون