حفاظاً على الجيش اللبناني

مرّت سنوات عديدة على بدء الثورات والحراك الجماهيري في العالم العربي، والذي أخذ أشكالاً متعددة، منها السلمي في تونس ومصر واليمن. ومنها الذي تحوّل إلى عسكري، بعد بطش الأنظمة الحاكمة بالمتظاهرين السلميين، كما في ليبيا وسورية، وعلى الرغم من هذا الجو الملتهب في المنطقة، حافظَ لبنان على نسبةٍ مقبولة من الاستقرار الأمني، وساعده في ذلك المجتمع الدولي الذي قرّر تحصين لبنان من الخضّات الأمنية والسياسية المحيطة، لأسباب متعددة، قد يكون على رأسها الحفاظ على ما تبقى من وجود مسيحي في الشرق الأوسط، كون الأنظمة الديكتاتورية وتنظيمات إسلامية متطرفة، تتعامل مع المسيحيين وبقية الأقليات، كدروع بشرية، أو كورقة سياسية تتلاعب بها، وأبرز دليل ما حصل في حق مسيحيي الموصل في العراق.
المظلة الدولية التي أحاطت لبنان تعرّضت، أحياناً، لثقوبٍ كثيرة ناتجة من الاشتباكات بين محوري جبل محسن وباب التبانة في طرابلس، وكان الجيش محور فصلٍ فيها، وتعرّض بعض الوقت لاعتداءات وإطلاق نار من طرفي القتال، بالإضافة إلى الاشتباكات التي حصلت بين الجيش اللبناني وجماعة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، والتفجيرات التي هزّت مناطق عديدة منذ بدء الأزمة السورية، واستهدف بعضها، أيضاً، حواجز للجيش اللبناني. هذا عدا عن إشكالات متفرقة بين الجيش والمواطنين في تظاهرات هنا، ومسيرات هناك، كانت في معظمها تأييداً للثورة السورية، أو استنكاراً للتضييق على بلدات وقرى حوصرت بسبب دعمها الثوار السوريين، ولا ننسى، أيضاً، اعتداءات النظام السوري على الأراضي اللبنانية في الشمال والبقاع، والتي ردّ الجيش على بعضها وتجاهل أكثرها.
هذه الخضّات الأمنية التي ضربت لبنان، أُجبِرَ الجيش، في أحيانٍ كثيرة، أن يكون طرفاً فيها، على الرغم من أنه لا علاقة لهُ بمعظمها، فالتفجيرات التي استهدفته كانت، على الأرجح، ستنفجر في أماكن أخرى، لولا تضحية الجنود وسهرهم على حفظ أمن المواطنين اللبنانيين، وأيضاً الإشكال الذي حصل مع جماعة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، يُجمِع سياسيون لبنانيون كثيرون على أن كلا الطرفين استُدرِجا إلى الاشتباك الذي أدى، في النهاية، إلى إنهاء ظاهرة الشيخ الأسير، والذي كان يسبب قلقاً لأطراف سياسية عديدة في لبنان، خصوصاً للفريقين المتخاصمين، حزب الله وتيار المستقبل.
وهكذا، فإن الجيش اللبناني، ونتيجة توريطه من مسؤولين سياسيين في بعض الزواريب، تعرّض لسهام انتقاداتٍ عديدة، وصلت إلى حد اتهام نوابٍ له بالتحيّز إلى طائفة ضد أخرى، على خلفية تعامله مع اشتباكات صيدا وطرابلس، أو على خلفية غض طرفه عن تحركات حزب الله العسكرية تجاه سورية، في مقابل اعتقال أي شاب لبناني يدعم، أو يقاتل، إلى جانب المعارضة السورية.
وبما أن الجيش يتكوّن من جميع الطوائف اللبنانية، ظل يتعامل بحذر مع أي خضة أمنية، خوفاً من التعرض للانشقاق أو الانهيار، على غرار ما حصل في الدول المجاورة، وعلى الرغم من صدور دعوات عديدة إلى الانشقاق عن الجيش اللبناني، أبرزها من الشيخ الأسير، إلا أن هذه الدعوة وغيرها لم تلقَ آذاناً صاغية في وقتها، ولم تظهر أي حالة انشقاق، على الرغم مما أشيع عن وجود حالات حافظ الجيش على سريتها. ولكن، قبل عدة أيام، برزت حالة انشقاق علنية عن الجيش، تمثلت بإعلان المجند عاطف سعد الدين تخليه عن البزة العسكرية، وانضمامه إلى جبهة النصرة، ما شكّل صدمة لدى مراقبين لبنانيين عديدين، كانوا يستبعدون أية حالة انشقاق عن الجيش اللبناني، خصوصاً بعد اجتيازه بأقل الخسائر أخطر المطبات الأمنية.
هذه الواقعة لا بد أنها ستدفع بمسؤولين سياسيين وعسكريين كثيرين إلى التفكير بأسباب حصولها، وسبل منع تكرارها، والحل واضح وسهل، ويتمثّل بحيادية الجيش عن جميع الخلافات السياسية، وعدم وقوفه مع طرف لصالح آخر، والتعامل بعدل مع جميع المعطيات الأمنية، وعدم الاكتفاء بالتلميع الإعلامي لصورة الجيش، بتأليف الأغاني، أو نشر الإعلانات الداعمة له، ولعّل قرار مجلس الوزراء إلغاء وثائق الاتصال والاخضاع يشكّل بادرة أولى لتخفيف الاحتقان المُعتمل في صدور لبنانيين كثيرين تجاه المؤسسات العسكرية والأمنية.