حصة روسيا وحسابات تركيا المحدودة

حصة روسيا وحسابات تركيا المحدودة

10 فبراير 2020
+ الخط -
أنهت روسيا بالقوة كل مناطق خفض التصعيد في سورية، حيث أصبحت خاضعةً لسيطرتها؛ النظام الآن تابع لها. اطمئنانها لهذا الأمر آتٍ من صمتٍ وموافقة أميركيين على هيمنتها على سورية، منذ سبتمبر/ أيلول 2015. وهذا سيحجّم طموحات الدول الإقليمية، أي إيران وتركيا. ساهمت الأخيرة، عبر "مسار أستانة" بصفقة مناطق التصعيد، توهمت أن روسيا ستجعل منها شريكاً في سورية، وتبقي المناطق التي بادلتها إياها تحت سيطرتها "مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام"، وكذلك إدلب المشمولة باتفاقية سوتشي بين القيصر والسلطان؛ روسيا الساعية إلى هيمنة منفردة على سورية، وهو حال الدول العظمى في السيطرة، ناورت كثيراً، وتحققت لها، وعبر تركيا وأميركا، السيطرة على مناطق خفض التصعيد، ولكن ذلك ليس نهاية المطاف، وها هي تحاول التحرّك تارةً نحو إدلب وتارة نحو شرق الفرات. معركة إدلب أسهل، حيث تخشى تركيا المواجهة، والأحداث أخيرا ومقتل جنود أتراك، من دون ردٍّ تركي حقيقي، توضح ذلك. وهناك اتفاقيات سرية وعلنية بينهما، ولا بد من فتح الطرق الدولية، واجتثاث الجهاديين. وفي إطار ذلك، ستستغل روسيا الحرب لتوسيع المناطق الواقعة تحت سيطرتها. روسيا الآن، وبعد تقدّم قوات حلفائها وتحت إشرافها، ستعقد
اتفاقاً جديداً أغلب الظن، وستحشر فيه ملايين السوريين على الحدود مع تركيا، وستورّط الأخيرة بتلبية احتياجاتهم وحل مشكلاتهم؛ ربما ذلك، وربما تدفع بهم إلى تركيا أيضاً!. 
ليس التصعيد التركي أخيراً ذا معنى، وتصريح أردوغان عن ضرورة تراجع النظام، حتى نهاية فبراير/ شباط عن المناطق التي احتلها، هو بحد ذاته تدوير للزوايا مع الروس، وريثما يتم الوصول إلى اتفاقٍ جديد، سترضى به تركيا، وأياً كان ذلك الاتفاق!، وبالتالي ليس التصريح السابق بمثابة موقفٍ تركيٍّ "ناري"، وتهدف عبره إظهار العين الحمراء للروس، كي يتوقفوا عن التقدّم وترك مناطق السيطرة التركية لها. روسيا التي تعلم أن مشكلتها الكبرى مع أميركا، حيث توجد قواتها شرق سورية، وفي السياسات العالمية كذلك، وسيكون الوضع أكثر تعقيداً، حينما يتفعّل قانون سيزر، وبالتالي ربما تترك بعضاً من المناطق تحت السيطرة التركية، ولكنها لن تشرعنها، وستكون مناطق ابتزاز لصالح روسيا، مع بروز أي خلاف بين الدولتين، وربما لن تترك شيئاً.
أخطأت تركيا في كل سياساتها إزاء سورية، ولكنها قبل 2011، كانت تضع كل سلة بيضها عند النظام، وبعد مرحلة بسيطة نقلتها إلى "الإخوان المسلمين"، بينما الثورة شعبية، وتتطلب رؤية مختلفة. ولاحقاً اكتفت بتصريحات نارية عديمة الجدوى، كالقول إن حماة خط أحمر. وتتالت الحكاية، حتى تدخلت روسيا وفرضت شروطها كاملة. وتوضح طريقة إدارتها للطائرة الروسية التي أسقطتها في 2015 الفرق بين قوة الدولتين، وقوتهما العالمية والإقليمية. لم
 تضع تركيا سياسة هيمنية على سورية، وبذلك اكتفت بوضعية الدولة العالمثالثية، وهي حالتها الفعلية، حيث حماية أمنها القومي أولويتها، ورفض أي شكل مؤسساتي للأكراد، باعتبار الأخيرين امتداداً للأكراد في تركيا ودول المنطقة، ويشكل أي استقلال لهم تحفيزاً للأكراد في تركيا والمنطقة.
في الجزيرة السورية، لم تتمكن من تشكيل منطقةً آمنة، ولم يتدفق السوريون نحو المناطق تحت سيطرتها، وحتى المهجّرون إلى عفرين وسواها، يعيشون في أسوأ الأوضاع، واللاجئون على حدودها أيضاً في حالةٍ رديئة. في الجزيرة، رسمت سياستها بالتوافق تارة مع روسيا وتارة مع أميركا، ولم تنجز تقدّماً إلى أيّة منطقةٍ من دون ذلك. وبالتالي، قوّة تركيا في الشأن السوري متعلقة في شمولية النظام ورفضه أية تسويات مع المعارضة والشعب، وفي رداءة المعارضة السورية التي استخدمتها تركيا ورقة بيدها، من دون أن تستفيد هي فعلياً من ذلك. وأيضاً، لو استطاع المهجّرون لولّوا وجوههم إلى أوروبا، ومن دون وخز ضمير أو تفكير ثانية أو ثالثة.
عكس تركيا، حينما تقدّمت قوات روسيا إلى مناطق سيطرة الأميركان تمت إبادتها في 2018، وكذلك حينما تحتك الدوريات الروسية بالأميركية في الجزيرة السورية، فتنسحب الأولى سريعاً. روسيا مستعجلة إلى مدّ نفوذها إلى قلب إدلب، وربما إلى حدود تركيا هناك، وتتهيأ لترتيب الأوضاع مع الأميركان، سيما أن الأخيرين يعيدون تمركزهم، ويعلنون مواقف جديدة، ربما تشكل سياسة ثابتة في سورية، وهي عدم دمج النظام السوري في المنظومة العالمية قبل الحل السياسي، والبقاء في مناطق الطاقة السورية، ومنع روسيا والنظام من الاستفادة منها، ورفض 
السماح لإيران بتشكيل طريقٍ بريٍّ بين العراق وسورية، ودعم موقف إسرائيل في قصف أية مواقع عسكرية في سورية، تراها مُهدِّدة أمنها الإقليمي، ولن نتكلم عن صفقة القرن، والحلف العربي الذي يدعمها ويشرعنها بكلٍ خسّةٍ، وتتضمن تهميشاً للتدخل الإيراني في فلسطين وكل المنطقة.. المقصد من هذ الاسترسال أن الولايات المتحدة بدأت ترسم سياسة جديدة، تمنع بموجبها أن تصبح سورية كاملة لصالح روسيا، وأن ذلك لن يكون من دون ثمنٍ حقيقيٍّ. وضمن ذلك، تحاول روسيا الحصول على أكبر حصة من سورية بما لا ينهي علاقتها المهمة مع تركيا، ويجعل منها شريكاً أساسيّاً في أيّة صفقة تتناول سورية مستقبلاً. لهذا يميل الكاتب هنا إلى أن روسيا ستعقد اتفاقاً جديداً مع تركيا، ولن تكمل تهجير السوريين مما تبقى من إدلب، أو المناطق التي تسيطر عليها تركيا.
معارك سورية، وتموضع الدول على الأرض السورية، يوضحان أن روسيا لن تنال سورية قبل تنفيذ الشروط الأميركية والأوروبية، وتتمحور حول تغييرٍ كبيرٍ في بنية النظام. وهذا سيفتح تدخلاً دولياً واسعاً في سورية، ولن يكون لتركيا وإيران حصة الأسد كما توهمتا طويلاً، وأيضاً ستتراجع حصة روسيا، وعلى نفسها جنت براقش. يمكن أن تكون روسيا شريكاً أساسياً في سورية للغرب، ولكن ذلك يتطلب ما ذكرنا، وبالتالي كل انتصارات روسيا وحروبها ومعاندتها أوروبا وأميركا لم تكن سياسةً صائبة، والنظام لن يتعوّم أبداً، وهي تُعدُّ الآن ومستقبلاً احتلالاً، ويجب طرده.
خسرت تركيا فرصاً كثيرة، ولن يعود دورها في سورية كما كان. وبالطبع، لن تستفيد من استثمارها في المعارضة التي أصبحت هامشية وعديمة القيمة. تركيا الآن تتهمش أكثر فأكثر، وستظلُّ في بعض الجيوب الحدودية، وما ستتركه لها روسيا وأميركا في آنٍ واحد. لن تتحرّك تركيا نحو أميركا، على الرغم من سياسة الأخيرة الجديدة، حيث خذلتها مراتٍ ومرات، وهي تدعم قواتٍ كردية، وربما تمكّنها من حكمٍ ذاتيٍّ بعض الوقت.
إذاً في معارك الدول العظمى، ليس للدول الصغرى، إلا شعوبها وتبنّي قضايا الشعوب المظلومة، وهو ما لم تفهمه تركيا، ولا كل دول المنطقة، ولا المعارضة السورية. وبالتالي حسابات تركيا محدودة وهامشية، وكذلك حسابات النظام والمعارضة. وفي النهاية، يظل حلّ الوضع السوري متعلقاً بصفقةٍ روسية أميركية، تجبُ كل الاتفاقات التي قاربت الوضع السوري، وتحقق مصالح الدولتين العظميين.
المأساوي في ذلك كله أن سورية تدمرت، وأن أية إعادة إعمارٍ لها، وفي حال وجدت، لن تكون قبل عقود متتالية. المأساوي هذا شاركت فيه كل الدول العظمى ودول الإقليم، وهذا ما على المعارضة والشعب السوري وعيه بعمقٍ، والمطالبة بحقوقهم من تلك الدول.