Skip to main content
حسن الشاعر الهشاشةُ المستعصية للعالم
فريد الزاهي
عمل لحسن الشاعر (بإذن من الفنان)
حين رأيت أولى "منشآت" Installations حسن الشاعر أواخر القرن الماضي، كان الافتتان رفيقي والتفكّر بصيرتي. فهذا الفنان المهووس بالتوازن وباللونين الأبيض والأسود، يبدو كما لو أنه في كل مرة يعيد صنع الكون برمته ببعض الخيوط والأحجار والأخشاب. إنه يصنع أحلامًا "كوسمولوجية" متواترة، لا تني تتجدّد وتتخذ أشكالًا متعددة، من غير أن نحس معها - في حال التشابه - بغير الترابط والتوالد والتجدّد. وإذا كانت العادة في الفن المعاصر الذي يتخذ المنشأة وسيطًا تعبيريًا، أن يستقي الفنان موضوعاته ومواده من العالم المرئي، مازجًا بين التأويل والتحويل، مُمَسْرحًا أشياءه وكائناته، فإن حسن الشاعر يمنحنا من البداية عالمًا تجريديًا يبنيه تصوريًا ويجسّمه أمامنا في عملية جدلية تزجّ بنا في التفكير والتأمل عبر الإحساس البصري. 

في إحدى النصوص الأكثر تأملية في العالم، يبني السهروردي حكاية معقدة مبنية على الرقي والصعود والتحول في التعالي. حين قرأت هذه الحكاية المسارّية لم أدْرِ لمَ سار ذهني باتجاه بعض أعمال حسن الشاعر. صحيح أني تعرفت إلى أستاذه بباريس قبل التعرف إلى أعماله، إذ إن أستاذه "برنار مونينو" معروف في الساحة الفرنسية باشتغاله على التوازن المنطقي للكون، وورشته أشبه بورشة فلكي، بيد أن تلميذه حسن لم يسر في هذا الاتجاه تحديدًا لأن مواده وطريقته، كما نظرته وحساسيته الجمالية، جعلته يبلور عالمًا مغايرًا وخاصًا.

يبني الشاعر فضاءه الإبداعي بطريقة أفقية وعمودية في الآن نفسه. ثمة في الغالب عناصر تنطلق من السقف أو من الأعلى كي تتأرجح في الأسفل. إنها خيوط رقيقة أو غليظة تثبتها في توازن عارض، قطع حجر مصبوغة. وقد يكون السند أخشابًا تتخللها أشكاله المفضّلة التي تشبه الأحجار. هذه المخيلة الحجرية هي التي تمنح أعماله طابع الطاقة الشخصية المتوترة. إنها بشكل ما توقيعه الخاص.

ثمة بالتأكيد شيء ما يشدّ حسن الشاعر إلى هذه الثنائية الأسطورية للأبيض والأسود. فعليها ينبني الفن عمومًا، وأول شيء يتعلمه الفنان هو أن الفن يقوم على ثنائية المنير والمعتم. بيد أن الأمر قد يكون أعمق من هذه الثنائية، ليزج بنا في أصل الأشياء. فالأبيض جُماع الألوان لأنه يعدمها ببهائه، والأسود هو اللالون لأنه يبدو كما لو أنه ابتلع كل الألوان، مثله في ذلك مثل الثقوب السوداء التي تتلقى شظايا المادة والوجود. هذا الافتتان الهوسي بهذين اللونين يختزل الألوان كلها ويرمي بها في نصاعة تلك الثنائية وحدودها الجارحة. إنها بساطة الممْتنع وهي تخلق جمالية صارمة، تأتي تدرّجات الرمادي لتتراقص بينها. وفي تلك البناءات التي تنشد فيها الأشياء بين الأرضي والسماوي، تشكّل هذه الألوان ما يمكن أن نسميه الرغبة في الكتابة، أي خلق العلاقة التمازجية بين الورقة والقلم. ألم يقل ابن عربي بأن بين القلم واللوح جماعًا معنويًا، كما بين السماء والأرض؟

هذه العلاقة التوالدية هي التي تجعل من كل عمل لحسن الشاعر، رغبة في الحكاية ورغبة في الكتابة، وهو نفسه شخص حكاء. ثنائية البناء المجرد والمعنى المحسوس هي التي تنبثق في كل مرة من أعماله. بل إن هذا التعالي التأملي والتفكُّري، الذي نقف عنده في الأعمال العمودية، يجد نفسه أحيانًا انبساطيًا كلية. ذلك ما تترجمه سلسلة الأعمال التي يبنيها الشاعر في تواتر تكراري مدهش. وهذه القطع عبارة عن قطع من الخشب النصف دائري أو من الأقواس المزدوجة التي تحمل قطع أحجار أو ملح، تجد توازنها في التماس مع الأرض عند نقطة محددة، وتبدو ككائنات غريبة أو "روبوتات" أو حشرات آلية تزحف على الأرض. وهي أحيانًا أخرى صفحات خشب ومظلات بيضاء تشكل وعاءً متأرجحًا ومتوازنًا، يمنحه الحجر وأعواد الخشب، تجذره في الأرض.

ثمة دومًا حركية تنبعث من هذه البناءات ذات المعمار المدروس بدقة. والحقيقة أن ذلك التوازن المبني يحمل هشاشته. إنه دعوة صريحة لكل العناصر المحركة لأن تخلخل ثباته المصطنع. وكأن حسن الشاعر يدعونا للتفكّر في هشاشة العالم والأشياء والأرض، التي تهددها الزلازل والرياح والأعاصير. أما التوازن الداخلي فإنه مشدود إلى خيوط رهيفة تشبه تلك التي تمسك بالأحجار الملونة بالأسود. هكذا تدعونا أعمال الفنان إلى عبور شرنقاته ومعمار لوحاته نحو المعنى الذي تبنيه جزئيًا، لتهبه لنا كي نعيد تأويله وفقًا لمواقعنا ومواقفنا.

بين التدريس بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة والاشتغال المستمر على المشروع الفني الدائم التبلور، يتابع حسن الشاعر تجربته الفنية بتنويعها وإعادة صياغتها. والحقيقة أن هذا الفنان، بالرغم من موقعه المتميّز في الساحة الفنية المعاصرة، لم ينل حقه. ربما يعود ذلك إلى تفكيره الفني، الذي يظل خارج دائرة اهتمامات أغلب التجارب الفنية المعاصرة له، والتي يتوجه وعيها البصري نحو اليومي. فأغلب هذه التجارب تتنوع بشكل كبير بحيث يصعب أحيانًا الإمساك بالخيوط الرابطة بينها. وهي تخضع لتحولات الموضوعات ومن ثم إلى سلطتها المرجعية.
أما حسن الشاعر فيشتغل بالسلسلات الفنية ويترك بصمته واضحة على مكوناتها. وبذا فإنها تجربة تطرح علينا من منظورها الخاص مساءلة هوية الفن المعاصر. نحن نتذكر النقاش الذي دار في بداية التسعينيات على صفحات مجلة "esprit" الشهيرة، الذي دفع الكثير من الكتب للتحدث عن هشاشة هذا الفن وعن طابعه "الغازي"، أي الهلامي وغير المتحدّد المعالم. ورغم أن الكثير من التجارب قد أكدت عكس هذا الأمر، إلا أن الطابع الفضائي والمنفتح لتجربة الفن المعاصر قد جعل هذه الهوية إشكالية، لأنها في جانب منها تتمازج بالسينما وفي الآخر بالمسرح، وفي الجوانب الأخرى بالسينوغرافيا.

بالمقابل، فإن الانفتاح الفضائي الذي تمارسه أعمال حسن الشاعر، يبدو مدروسًا؛ ولعل هذا هو ما يفسر تعاطيه أيضًا للتشكيل وإنجازه لأعمال تمزج بين التشكيل والمنشأة الفنية. إنها تجربة تعيد طرح الهوة المفتعلة بين الفن الحديث والمعاصر وبين اللوحة والمنشأة الفنية. هكذا تدعونا هذه الأعمال في عمقها وتناسلها الجمالي إلى مواجهة مباشرة مع الفكر الذي يخترقها، مانحة إيانا الكثير من المتعة والأكثر من التفكير.

المزيد في ثقافة