حزب العمل الشيوعي في سورية.. نكسة حزيران وتعقيد الواقع

حزب العمل الشيوعي في سورية .. نكسة حزيران وتعقيد الواقع

05 يونيو 2020
+ الخط -
نكسة حزيران/ يونيو، "كهزيمة بحجم أمة بحالها"، سبب مركزي لولادة الحلقات الماركسية في سورية. والكاتب السوري الصديق راتب شعبو لا يكتفي ذلك، في كتابه الجديد "قصة حزب العمل الشيوعي السوري .. 1976 – 1992 فصل من تاريخ اليسار في سوريا"، (دار المرايا للإنتاج الثقافي، القاهرة، 2019)، بل يرى أيضا أن تلك الحلقات جاءت متزامنة مع بروز يسار عالمي جديد، وانتصارات متعدّدة لليسار في أكثر من بلد. على الرغم من ذلك، يستغرب كيف ليسارٍ جديد أن ينهض، ويخوض الصراع مع نظام بلده، الذي يَدَّعِي بدوره الانتماء لليسار، وهناك حزب شيوعي سوري قديم؛ أي كيف ليسارٍ أن ينهض، وهو محاط بكل هذا الفشل المحلي "السوري اليساري". لا ينتبه راتب إلى أن واقع سورية حينها، وربما الواقع العربي، لا يعطي خياراتٍ تاريخية إلّا ضمن حقل اليسار المقترن بالماركسية، أي أن الطبقة البرجوازية التقليدية لم تعد نموذجاً في حقل النهوض الاقتصادي ولا السياسي ولا الوطني، وبالتأكيد لا مكان لها في الحقل المعرفي. وبالتالي، تصبح الخيارات اليسارية محتومة بالضرورة، للناشطين والفاعلين والمثقفين الأميز. ولهذا، وعلى الرغم من النكسة، تكاثرت هذه الفعاليات اليسارية، في أوائل السبعينات. 
الشعب السوري في جعبة السلطة
لم تنتبه تلك الفعاليات، والتي يغلب عليها العنصر المثقف، إلى أن الشعب أو أغلبية الطبقات المفقرة أصبحت في جعبة النظام حينها، وتمَّ ذلك عبر الإصلاح الزراعي والتأميم والتعليم العام والصحة العامة وسواه كثير، وكذلك بأحلام العيش الرغيد، أي عبر الحاجات والقيم التي كانت محرومة منها! وبالتالي قُطِعَ الطريق على إمكانية تشكل حركاتٍ سياسيّة جماهيريّة، وكذلك أمام البرجوازية التقليدية. يضاف إلى ذلك أن الجنرال حافظ الأسد، وقد استلم الحكم بانقلاب عسكري، سمّاه الحركة التصحيحية 1970، اخترع جبهة وطنية تقدّمية، وأدخل فيها أقوى الحركات السياسية اليسارية حينها، أي حاول تدجينها في إطار سلطته وعبر الامتيازات، والتلويح بسيف الأجهزة الأمنية. وبالتالي، أصبح النضال حينها يتطلب رؤية عميقة لقضايا الواقع، وللطبقات، ولطبيعة السلطة، وبالتأكيد للواقع الإقليمي والعالمي، وأيّ فضاءات ممكنة.
الحلقات الماركسية التي كتب عنها راتب شعبو كتاباً ممتازاً، وأرّخَ لها ولتاريخ سورية في تلك 
الفترة، يوضح، في كتابه، طبيعتها، وكيفية تشكلها، وانتقالها من حلقات مبعثرة إلى حلقات مترابطة بالتدريج، ووصولاً إلى الاجتماع الثالث الموسع لها، وإطلاق اسم جديد، يجمع بينها وضمن إطار تنظيمي واحد، أي رابطة العمل الشيوعي، وظهرت في عام 1976. جاءت الحلقات هذه من حركات اشتراكية أو قومية أو شيوعية، وكلها مخفقة في معركتها مع إسرائيل ومع النظام السوري. وبالتالي، هي ذاتها لا تملك بديلاً عما كانته. انتقلت، كما يشير راتب، إلى الحقل الماركسي، ولكن الأخير لم يعطها أبعاداً جديدة، أو أفقاً جديداً، ولا سيما أنّها لم تتجاوز عبر القضايا التي طرحتها، وجُمعت لاحقاً بكراسات وطبعت عبر منشورات الرابطة، الدوران في الحقل المعرفي والسياسي للحقل الماركسي واليساري بعامة. المقصد من هذه النقطة أنها لم تحسم بشكل العمل التنظيمي، ولا بأهم القضايا السياسية والفكرية، المتوافقة مع الواقع المعقد، ولم تأت بجديدٍ نوعيٍّ، وبما يحدث تغييراً في الواقع. غلبة الاستشهادات بالماركسية في منشورات الرابطة توضح نصوصيتها وربما أصوليتها، أو سلفيتها، كما يشير الكاتب. هذا ليس مثلبة تُرمَى على الرابطة، بل هو للتوضيح، ويدعم إخفاقها ذاك، أن انشقاقات الحزب الشيوعي حينها، وأيديولوجية السلطة ذاتها، أيضاً لم تقدّم جديداً لا بالحقل القومي ولا اليساري، وبالتأكيد ليس بالحقل الديمقراطي أو المعرفي. وبالتالي، وجدت الرابطة نفسها في وضعٍ تاريخيٍّ معقد، وخاضت نضالاتها من خلاله، ولكنها لم تفهم بعمقٍ شديدٍ الإمكانات المتاحة لها حينها، أي أن الجانب الدعوي والنظري الذي كانت تلحُّ عليه، وأنه صفتها الأساسية إلى مرحلة تشكل الرابطة، ورافقها، حينما تحولت إلى حزب سياسي في 1981، لم يسعفها في تحديد الممكنات، والتموقع حصراً في الجانبين، الدعوي والتنويري.
الفكرة الأخيرة، طرحتها شخصية قيادية في الرابطة، والحلقات من قبل، أحمد جمول، كما يشير راتب. ما طرحه جمول، العمل مجدّداً في إطار الثقافة والتنوير والنقد وتأصيل الماركسية، ربما هو أدق رؤية للواقع وللممارسة فيه، أي في أثناء صعود الأسد الأب. لا ينطلق هذا التفسير من زاوية شمولية النظام حينها، وعدم القدرة على مجابهته، أو بسبب صراعه مع التيارات الإسلامية في الثمانينيات، بل من طبيعة التطور التاريخي حينها، حيث أغلبية الشعب في عباءة النظام كما ذكرت. وبالتالي، ردّ الاعتبار للعرب، والتخلص من آثار نكسة حزيران، لا يكون عبر حركاتٍ سياسيٍّة صلبةٍ وجذرية، وهو ما كانته رابطة العمل الشيوعي، ولاحقاً الحزب، بل يتمّ الأمر عبر عملٍ دعوي وثقافي، وبعيداً عن الارتباط بمؤسسات السلطة الثقافية. لم تستطع الأوساط الثقافية الناقدة حينها، وعلى أهميتها، تغطية هذه الفكرة، فكانت تتحرّك ضمن المتاح السلطوي، ومن دون أيِّ صراعٍ حقيقيٍّ معه. هذه الفرضية لا تقلّل من شأن المصائر المأساوية لأفراد الرابطة والحزب، ولا تقلّل من كفاحيتها العالية، ولا من أهمية (وخطورة) المسؤولية التي وضعتها أمامها، في التصدي للنظام وفضحه، ولكنها تنتقد الرؤية التي سارت عليها القوى الراديكالية تلك.
السخرية من السياسة الإراديّة
في أكثر من موضع في كتابه، ينتقد راتب شعبو ويسخر بمرارةٍ من تعظيم الإرادة في العمل 
السياسي، أي يشير إلى ضعف تبصر الحلقات والرابطة والحزب للواقع وموضوعيته، وممكناته. هناك شعور كبير بالهزيمة في استنتاجات كهذه، وهي حق للمؤلف، حيث خضع هو وتنظيمه إلى كوارث حقيقيّة "اعتقالاً وسجناً، ولعشرات السنين، وبزهوة الشباب، وتعاساتٍ للأهالي"، ولكن راتب، وبدلاً من أن يولي الواقع "الموضوعي" أهمية في تحليله، يقدم بديلاً سياسيّاً، وأن ما تجاهلته الرابطة، برأيه، كان هو الأقرب إلى الصواب، أي العمل السياسي ضمن الحقل الديمقراطي "ثورة ديمقراطية"، وليس ثورة اشتراكية أو مهمات تتعلق بالماركسية. ويتجاهل راتب الفكرة التي بينتها من قبل، أي غياب برجوازية تقليدية وطنية، تنهض بمشروعٍ تاريخيٍّ، وبالتالي من سينتصر لتلك الديمقراطية المشتهاة لدى صديقنا؟ أيضاَ في ثنايا الكتاب، وحينما يحلّل طبيعة الصراع في الثمانينيات، وأنّه دار بين البرجوازية البيروقراطية (النظام) والبرجوازية التقليدية (الإخوان المسلمين)، أقصد كأحد الممثلين لها، وقسم منها دعم الإخوان، يتجاهل غياب البعد الديمقراطي في برنامج تلك التقليدية؟
إذاً، هناك تعقيد كبير في الواقع السوري حينها، وكرّاسات الرابطة الإحدى عشر "ملامح الصراع الطبقي العالمي، المسألة الأممية والحركة الشيوعية العالمية، مسألة أشكال النضال والانتقال إلى الاشتراكية، الوحدة العربية ومسألة الأقليات، الثورة العربية والحزب الشيوعي العربي، المسألة الفلسطينية، البرجوازية الصغيرة والسلطة السورية، الطبقة العاملة السورية، الحركة الشيوعية المحلية، الجبهة والتحالفات، جدل بناء الحزب الشيوعي في الساحة السورية"، هذه الكراسات لم يطلع عليها معظم السوريين، بسبب عدم توفرها طبعاً، ولكنها لم تقدم جديداً نوعياً يشرح ذلك التعقيد الذي لم يُدرس جيداً، وكذا طبيعة السلطة المستبدة، والمناخ الأيديولوجي لحركات المعارضة، وقد منعت هذه العوامل كلها الوصول إلى رؤية خصائص الواقع المركب وممكناته. وبالتالي، حرقت الصراعات السياسية بين النظام والمعارضة وجود إمكانية مختلفة عمّا حصل! وتكرّر الأمر في الثمانينيات، وما بعد عام 2000، وما بعد 2011 أيضا، أي لم تفتح السلطات أيّ نوافذ للحوار أو الحريات، وأيضاً لم تتمترس المعارضة في ضرورة فتح تلك النوافذ، ومنها من التحق بالخارج، كما فعل النظام ذاته عبر التبعية لإيران أو روسيا؛ أن يقول آخرون قولاً مختلفاً، وينطلق من أن الصراع كان يجب أن يتحدّد سياسياً ووطنياً، وألّا يُسمح بأقلمته أو تدويله، فهذا لم يكن مسموعاً أو عاماً أو مؤثراً، وربما ليس ممكناً.
عدا عن عدم تقييم الواقع الموضوعي جيداً، والذي كانت تشكله السلطة في السبعينيات، فهناك إشكالية الوعي "المتأخر والمتخلف"، وهي قضيةٌ حاولت أقلام سورية التصدّي لها، ولكن لم يتم التوسع بها، ولم تفض المحاولات إلى نظرياتٍ معرفيةٍ جادّة في حقل الفكر والوعي، وكيفية الانتقال به إلى فضاء آخر، أي إلى حقل حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة والعصر الحديث، وحتى العلم بشكليه، الوضعي والإنساني، لم يتحقق في واقعنا. وبالتأكيد لا وجود للنظريات الفلسفية بصيغتها العقلانية الحداثية؛ أقوى القراءات حينها ذهبت إلى التراث، متوهمة أنها تبحث عن أجوبة لأزمات الواقع المعاصر!
المسألة الوطنية لا تنتج أحزاباً ماركسية
يكرّر راتب شعبو أن الحلقات الماركسية كانت نتاج المسألة الوطنية وليس القضية الاجتماعية، وهذا صحيح، فقد كان المجتمع لدى النظام عملياً، للأسباب أعلاه. إذاً، ليس هناك من إمكانية للتوسع الجماهيري، وهي حالة كل القوى السياسية اليسارية حينها، وليس الأمر خاصاً بالرابطة وحزب العمل الشيوعي. والسؤال: ما دامت القضية محصورة بالوطنية، والخوف من التسوية على حساب فلسطين والأراضي المحتلة، فكيف ستستطيع الرابطة أن تكون ممثلة بالفعل للطبقات الكادحة التي كانت تدّعي تمثيلها. طبعاً كانت تحاول استقطاب كوادر في الأحزاب الشيوعية، وتستغل أي مشكلات كبيرة تواجه السلطة لتقوية نفوذها، ولكنها، كما بقية القوى خارج الجبهة، جوبهت بكل أشكال القمع والاعتقال والتضييق. أيضاً رفضتها كل القوى اليسارية حينها، وقد اعترض الأمين العام للجزب الشيوعي السوري، المكتب السياسي، رياض الترك، على أيّ صلاتٍ سياسيّة معها، ورفض مقترحاً لحل الرابطة والدخول في حزبه، وبالتالي لم يكن أمام الرابطة إلّا السير منفردة، وقد اتخذت هذا المسار بعدما فقدت الثقة بإمكانية أن تكون قطباً أو تساهم في تشكيل الحزب الشيوعي الثوري، وتخوض نضالاً جماهيرياً ضد السلطة. ودفعتها هذه الأجواء إلى تشكيل حزب العمل الشيوعي في العام 1981.
ما الصحيح تاريخياً؟ هل هي سياسات السلطة، وقد استدعت الخارج لحمايتها بعد 2011، أم 
الحزب الشيوعي الرسمي الذي انقسم شيعاً، وكان تأثيره هامشياً وتابعاً للروس، أم من صارع النظام دونكيشوتياً، أم من حيّد نفسه عن الصراع، ولاذ بالثقافة أو الادب أو الصمت؟ غلبتُ أعلاه، خيار العمل عبر الجانب الدعوي الثقافي في السبعينيات، إلى أن تتغيّر الشروط الواقعية، وتبتعد الطبقات المفقرة عن السلطة، فيصبح للناشطين والمثقفين دور تاريخي، ولكن ليس كذلك يسير التاريخ، بل يسير عبر ممكناته الواقعية، والتي تشكلها السلطة الحاكمة بأغلبيتها. وبالتالي لعبت السلطة الشمولية، ولا سيما عبر الجهة الوطنية القديمة وكل مؤسساتها السياسية والأيديولوجية دوراً تقييدياً لحركة المجتمع، وضبطته، ونبذت كل من يخرج عن تقييداتها تلك، وهذا بالضبط ما منع تطوّر أيّ ممكنات سياسية خارج المحدّد مسبقاً، وبالتالي عُزِلت الفئات المُعارضة عن الشعب، وهو ما ساعد في التخلص منها بسهولة عبر الاعتقال والسجون والقتل.
طرح راتب شعبو قضية تتعلق بكيف يمكن لفئاتٍ سياسيّة غير عمالية أو كادحة أن تدّعي الدفاع عن قضايا الطبقات العمالية والفلاحية، وأن ذلك لن يكون حقيقياً، حيث لا بد للأصول الطبقية لتلك الفئات، أي الأصول البرجوازية، من أن تتغلب على رؤيتها المدّعاة، وتقودها إلى تلاقٍ مع موقعها الطبقي. رابطة العمل الشيوعي وبعدها الحزب والحزب الشيوعي بانقساماته، فعلاً تعاني من هذه القضية، فأغلبية أفراد هذه القوى تنتمي إلى الطبقات البرجوازية، وتحديداً الصغيرة، بينما هي تدّعي تمثيل الطبقات المفقرة، وبالتالي ستفشل بالضرورة. الحقيقة أن ذلك الفشل لا يتعلق بالتركيب الطبقي لهذه الأحزاب فقط، بل أيضا بانعدام أيّ شروطٍ موضوعية "سياسية"، وبغياب أيّ شكلٍ للحريات، وهذا يعني أن كل الفئات المعارضة ستفشل بالضرورة، وهو ما كان. القصد أن تلك القوى، وعلى الرغم من فشلها، لم تختبر رؤاها بشكلٍ حقيقيٍّ ... نضيف إلى ذلك كله، هناك الأساس الطبقي للفشل، حيث سيطر النظام، عبر سياساته الاقتصادية والاجتماعية، على أكثرية الطبقات الكادحة، وهذا لعب دوراً ليس في عزل القوى السياسية اليسارية فقط، بل وحتى القوى الإسلامية، حيث وعلى الرغم من قوة الصراع السياسي والعسكري في الثمانينيات، وتوفر دعم خارجي، لم تستطع جذب الأغلبية إليها، وحتى فئاتٍ كثيرة من البرجوازية التقليدية، والتي لا تحوز على أيّ أدوارٍ سياسيّة، لم تلتحق بالإخوان المسلمين، ولا الأخيرين فهموا ما فعلته السلطات الجديدة في مطلع السبعينيات، الانفتاح على البرجوازية التجارية، وما تبقى منها في البلاد، إثر حركة 8 آذار/ مارس 1963.
إذاً، شكل غياب رؤية الواقع في سورية بشكل موضوعي إشكالية كبرى، وهي قضية فشلَ النظام ذاته في رؤيتها في 2011، حيث خرجت أغلبية المجتمع ضدّه، وكان الحلّ باستقدام الدول لمواجهة المجتمع، ورهن البلاد لصالح تلك الدول. على ضفة المعارضة، لم تستطع تشكيل مؤسسات فاعلة ومقتدرة، ففشلت على الرغم من توفر كل الفرص لإسقاط النظام. القصد هنا أن معالجة تاريخ ممكنات أيّ حركة سياسيّة أو دراسة هذه الممكنات يتطلبان دراية دقيقة، وشغلاً نظرياً واسعاً. وبالتالي، التأريخ والدراسة والبحث الفردي، وعلى الرغم من أهميته، لا يقدم معرفة دقيقة وإلماماً جيداً بالمسائل المناقشة، واستخراج قانونيتها أو أسباب سير التاريخ بهذا المنحى، وليس بسواه.
بطريركية العقلية البكداشية
لا يمكن للتحليل أن يتطرّق لمشكلة اليسار في سورية، إلّا بإبداء ملاحظات بشأن وضع القوى 
الشيوعية في سورية. لقد أوضح المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري في 1969 الحالة المأساوية التي كان الحزب عليها، فهو يعاني أزمات مركبة، عصفت فيه لاحقاً انشقاقات متتالية، التحاقاً بالنظام، وحتى تيار المكتب السياسي كان هامشياً، وكذلك بقية التيارات؛ أسوأ ما عانته الحلقات والرابطة وحزب العمل لاحقاً، رفض الاعتراف بها من الوسط الشيوعي ذاك، وهذا ما دفعها، ربما، إلى مواقف راديكالية وصلبة، وكانت نتيجتها، وعلى الرغم من أن ممارساتها كانت سلمية بامتياز، اعتقال الأغلبية الساحقة من كوادرها. الحياة في المعتقل والسجون كارثية بكل المقاييس، وهي حالة المعتقلين السياسيين، ولا سيما الإسلاميين منهم. أما لماذا لم يستطع الحزب الشيوعي السوري تجاوز أزمته في 1969، فالأمر متعلقٌ بطبيعة القيادة البكداشية، الأبوية، البطريركية، والتي كانت ذيليةً وذليلة للسوفييت، وطبعاً موثوقة منهم، ويضاف إلى ذلك التحاقه بالنظام مع الحركة التصحيحية، وهناك الهشاشة النظرية والسياسية التي كان يمتاز بها الأمين العام، وأكثر من ستة عقود، خالد بكداش.
العوامل المانعة لأي حوارات داخل الحزب الشيوعي حتمت الانشقاقات، وانعكس هذا على الحلقات الماركسية التي بدأت تتشكل بعد الهزيمة في 1967 سلباً، وما تطوّرت إليه تنظيمياً، حيث تمَّ تجاهلها بشكل كامل، وكأنّها لم تكن موجودة، ولم يجتثها النظام بشكل كامل.
تميّزت الحلقات وما أفضت إليه برفضٍ حاسم للممارسات البيروقراطية والفردية، ولم تنتخب مطلقاً أميناً عاماً لها، وكانت قيادتها دائماً جماعية، وللأقلية كل حقوق الأغلبية، مع حق الأغلبية برسم السياسات والمواقف العامة والرسمية، وغلب على مراحل هذا التنظيم، الإنتاج النظري وإصدار صحف ومجلات عديدة، ومنها ما هو عام، ومنها ما هو داخلي. أي أنها عاشت أجواءً ديمقراطية فعليّة. وأتاحت ديمقراطيتها هذه لها التغيير المستمر في مواقفها، وفي المسألة التنظيمية، وإنْ شهدت رسوخاً نظرياً متماسكاً.
ودفعت أجواء اليسار هذه كلا منها إلى أن يتخذ اتجاهاً مختلفاً تقريباً. الحزب الشيوعي بكل انشقاقاته ظلَّ يستفيد من مكرمات النظام، ويُستثنى منه الحزب الشيوعي، المكتب السياسي، ومنذ 1976، وقبل ذلك كان ممثلاً في الجبهة والبرلمان! المكتب السياسي انخرط مع قوى "ديمقراطية" وشكلوا تجمعاً سياسيّاً، سموه التجمع الوطني الديمقراطي، 1979، بينما أجبر حزب العمل على التغريد وحيداً، واجتهد لتكون له شعبية من خارج أطر القوى السياسية، وعلى الرغم من نجاحه في الوسطين، الكردي والفلسطيني، بتشكيل لجانٍ شعبيّة، فقد أخفق في الوسط السوري. حتى ذلك الوسط، إضافة إلى "الوسط الاجتماعي" الحزبي، تراجع بسبب الحملات الأمنية المتلاحقة، والتي أَجهزت عليه في 1993، حيث اعتقل كل أفراده.
ملاحظة أخيرة في توضيح حالة اليسار الراهنة: الوجود الهش لكل قوى اليسار السوري منعه من أن يشكل أيّ حالةٍ سياسيّةٍ متطورة بين عامي 2000 و2011، وكذلك في إطار الثورة، وبالتالي كان وجوده هامشياً بامتياز، ومُلحقاً بالقوى السياسيّة الأخرى، وهي حالة النسخ الجديدة من حزب العمل "الجديد" والمكتب السياسي. الأخير أصبح، بعد انشقاق فيه، حزب الشعب الديمقراطي السوري، وهناك مجموعات يسارية صغيرة، وحتى الانشقاقات التي فرضتها الثورة على الأحزاب الشيوعية لم تشكل حالة نوعيّة؛ أقسام الحزب "البكادشة والفياصلة والقدادرة"، ظلّت تدور بفلك السلطة وتنال الامتيازات.