حزبا أميركا: صراع أجيال وأفكار

حزبا أميركا: صراع أجيال وأفكار

16 يوليو 2019
كورتيز من نجوم التيار اليساري في الحزب الديمقراطي (Getty)
+ الخط -
تمرّ السياسة الداخلية الأميركية بمرحلة اضطراب، هي ارتداد لتحولات العقدين الأخيرين من حرب العراق في العام 2003 إلى الركود الاقتصادي في 2008، من انتخاب باراك أوباما رئيساً وصعود حركة "حفل الشاي" (تي بارتي) في 2009، إلى انتخاب دونالد ترامب رئيساً وبروز التيار اليساري في 2016. وعلى أبواب انتخابات رئاسية حاسمة لمستقبل أميركا، يتبلور أكثر هذا الحراك الجديد داخل كل من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، ما قد يترك انعكاسات على استقرار النظام السياسي، في ظل محاولات منفصلة بين المحافظين واليساريين لتقويض القيادات التقليدية أو ما يسمّى بـ"الاستابليشمنت".

عند الديمقراطيين يوجد شبه انقلاب للجيل الجديد، لا سيما القياديّات، على الحرس القديم في الكونغرس، المتمثل في رئيسة المجلس نانسي بيلوسي، في معركة لها دلالاتها، لأن النساء هن القوة الانتخابية الكبرى في الحزب الديمقراطي. الخلافات الرئيسية العلنية بين الطرفين، هي رفض بيلوسي السير بإجراءات عزل ترامب في الكونغرس، وعدم ضغط الديمقراطيين بما يكفي على البيت الأبيض لتحسين شروط اعتقال المهاجرين غير النظاميين على الحدود مع المكسيك. التباين، الذي كان داخل الأروقة، خرج إلى العلن الآن عبر تصاريح وتغريدات نارية أظهرت عمق هذه الخلافات.

النائب ألكسندريا أوكاسيو كورتيز (29 سنة) هي من النجوم الصاعدة للتيار اليساري في الحزب الديمقراطي، ومن الوجوه البارزة التي تقود هذا النهج المناهض لبيلوسي (79 سنة)، والذي لا يرغب اللعب في الكونغرس بحسب القواعد القديمة. خلال مؤتمر للحركة التقدمية في فيلادلفيا، السبت الماضي، اختصرت زميلتها النائب إلهان عمر رؤية هذه المجموعة لدورها في مجلس النواب بالقول: "نحن لسنا حقاً في مجال طلب المشاركة في السلطة. نحن في مجال محاولة الاستيلاء على هذه السلطة وإعادتها إلى الناس". هذه المجموعة، التي تسمّي نفسها "زمرة" ويسميها الإعلام "الديمقراطية الاشتراكية"، تنتمي إلى لجنة عمل سياسي تقدمية تُدعى "ديمقراطيي العدالة" تم تشكيلها في العام 2017 وقدمت نحو 80 مرشحاً خلال انتخابات الكونغرس العام الماضي، فاز منهم 7 مرشحين، لعل أبرزهم كورتيز وعمر وأيانا سوييني بريسلي والنائب من أصول فلسطينية رشيدة طليب. هذه المجموعة ولدت من رحم الفريق الذي دعم المرشح اليساري السيناتور بيرني ساندرز خلال الانتخابات الرئاسية في العام 2016.

معركة الأجيال هذه بين الحرس القديم والجيل الجديد بدأت تأخذ بعداً عرقياً، بعد اتهامات وُجهت لبيلوسي بأنها تميز ضد هذه المجموعة الشابة التي هي من أصول مهاجرة. وكان رد القيادة عبر تجمّع النواب السود الذي اتهم المجموعة بأنها نافست المرشحين السود خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة. مجموعة "ديمقراطيي العدالة" لا تكتفي بتحدي قياديي الحزب من داخل مجلس النواب بل توسع يومياً قائمة مرشحيها لانتخابات الكونغرس المقبلة. وتنوي المجموعة ترشيح شخصيات جديدة بوجه نواب ديمقراطيين يناهضون حق المرأة في الإجهاض، أو يحصلون على تمويل من شركات كبيرة ومجموعات الضغط. هناك حتى مايو/أيار الماضي أكثر من 100 مرشح ديمقراطي لتحدي النواب الذين يشغلون حالياً المقاعد الديمقراطية في الكونغرس.

الاتفاق الضمني الهش الذي توصل له الطرفان بداية العام الحالي، وأدى إلى انتخاب بيلوسي رئيسة للمجلس، يتعرض للاهتزاز. بيلوسي اعتبرت أنه يمكنها وضع هذه المجموعة الصغيرة نسبياً تحت جناحها لتُعلمها كواليس الكونغرس وواشنطن، لكن قوة هذه المجموعة تنامت مع الوقت، وبدأت تتحالف مع القاعدة اليسارية الأوسع في الحزب للضغط على رئيسة المجلس، لا سيما بعدما اجتمعت مع ترامب في البيت الأبيض خلال الأشهر الماضية. بيلوسي ترى أن الأصوات المعتدلة هي التي تعطي الديمقراطيين الأغلبية في مجلس النواب، فيما ترى المجموعة المعارضة أن الأولوية هي لتحقيق برنامجها السياسي وليس تعداد الأصوات في الكونغرس.

طبعاً لا يمكن لترامب أن يكتفي بمتابعة هذا الاشتباك الديمقراطي الذي يستفيد منه انتخابياً، بل دخل على الخط عبر دعم بيلوسي علناً في محاولة لإضعافها. كما دعا، في تغريدة، أفراد هذه المجموعة للعودة إلى بلادهم الأصلية حيث "الحكومات كارثة شاملة وكاملة" وذلك "للمساعدة على إصلاح هذه الأماكن المكسورة والموبوءة بالجريمة التي أتوا منها". هذه التصريحات تحاكي الكلام اليومي عبر قناة "فوكس نيوز" للإعلاميين المحافظين المقربين من الرئيس، كما تقوي في الوقت ذاته نفوذ هذه المجموعة في صفوف الليبراليين، ما يخدم مصالح ترامب الذي يردد يومياً أنه يجب منع الاشتراكيين من الفوز في الانتخابات.

ترامب نفسه بدأ الجولة الثالثة من الإجهاز على القياديين الجمهوريين المعتدلين في الحزب. الجولة الأولى كانت في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في العام 2016 حيث قضى على عائلات تقليدية مثل آل بوش، والجولة الثانية كانت خلال انتخابات الكونغرس النصفية الأخيرة حيث رشح مناصرين له ضد أعضاء جمهوريين معتدلين تحدوا بعض سياساته خلال أول عامين من ولايته الرئاسية. النتيجة كانت أعضاء جمهوريين في الكونغرس أكثر انسجاماً مع كل ما يريده الرئيس. ومع بداية موسم الانتخابات الرئاسية، شعر ترامب بأن هناك أصواتاً جمهورية معتدلة بدأت تعود إلى الواجهة، وبالتالي كان رده عبر حملتين. الحملة الأولى على "فوكس نيوز" لمنع ظهور الأصوات المعارضة له على شاشاتها، لا سيما من الجمهوريين المعتدلين والديمقراطيين. الحملة الثانية هي تجديد هجومه على رئيس مجلس النواب السابق الجمهوري بول راين، الذي يمثل التيار المحافظ التقليدي برؤيته للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.

استئناف هذا الهجوم على راين جاء من بوابة نشر كتاب جديد عنوانه "مذبحة أميركية" يروي الأيام الحاسمة في حملة ترامب في أكتوبر/تشرين الأول 2016، حين سربت صحيفة "واشنطن بوست" شريطاً تفاخر فيه ترامب بقدراته على التحرش الجنسي من دون تبعات. هذا الشريط المسرب هز الحزب الجمهوري وجعل أصواتاً مثل راين تأخذ مسافة من ترامب، الذي قرر حينها المواجهة وتحويل المناظرة الرئاسية مع منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون إلى محاكمة للمغامرات الجنسية لزوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون. راين كان حينها واحداً من القياديين الجمهوريين الذين بحثوا إمكانية سحب ترشيح ترامب واستبداله بنائبه مايك بنس. ترامب استغل الكتاب لإعادة التصويب على رئيس المجلس الأسبق وما يمثل، حيث قال، في تغريدة السبت الماضي: "كاد أناس مثل راين يقتلون الحزب الجمهوري"، معتبراً أن الجمهوريين مثله "ضعفاء وغير فعالين وأغبياء".

سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري أصبحت شبه مطلقة، بحيث ينال تأييد 90 في المائة من الجمهوريين، بحسب آخر استطلاع لمؤسسة "غالوب"، وبالتالي لن يصمد طويلاً تحت الضغط الشعبي أي نائب أو سيناتور في الكونغرس يتحدى الرئيس. وكل استطلاعات الرأي تشير أخيراً إلى أن أي مرشح رئاسي للديمقراطيين قادر على هزم ترامب إذا حصلت الانتخابات اليوم، لكن التحدي عند الديمقراطيين هو في قدرتهم على الفصل بين معاركهم داخل الكونغرس والمواجهة المقبلة مع ترامب في الانتخابات الرئاسية. ترامب قادر على تجييش القاعدة المحافظة الوفية له، لكن التحدي أمام الحزب الديمقراطي هو أن يختار مرشحاً أو مرشحة مع قدرة على تحفيز القاعدة الشعبية، لا سيما اليسارية، لتخرج إلى صناديق الاقتراع يوم الانتخابات.

يختصر فارق الخمسة عقود في السن بين بيلوسي وكورتيز طبيعة المعركة الدائرة بين الليبراليين، وفي ظل ضغوط متزايدة من الحزب الديمقراطي، لطيّ صفحة هذه الخلافات مؤقتاً على الأقل، لأن الأولوية يجب أن تكون هزيمة ترامب. وعلى الأرجح ستتم معالجة هذا التأزم، لكن ذيول هذه المعركة ستستمر، وعلى أي مرشح رئاسي ديمقراطي التعامل مع قاعدة يسارية يتوسع نفوذها مع عدم تكرار خطأ كلينتون بعزل وتجاهل بيرني ساندرز، الخطوة التي كانت من الأسباب الرئيسية لخسارتها انتخابات 2016. القاعدة اليسارية لا تزال بعيدة عن إمساك مفاصل الحزب الديمقراطي، على عكس ترامب والمحافظين الداعمين له. قرار المحكمة العليا الأخير، بعدم التدخل في محاولات إعادة رسم الدوائر الانتخابية، يعني بكل بساطة إطلاق يد ترامب لإنتاج خريطة انتخابية جديدة في الكونغرس، قد يحصل على أكثريتها التياران المحافظ واليساري مع تقليص الأصوات المعتدلة من الحزبين التي تبحث عادة عن تسويات مع الحزب المنافس لضمان فعالية المؤسسات الحكومية والتشريعية في واشنطن. إذا حصل ترامب على مبتغاه في هذا المجال، فسيكون الاضطراب والتخبط والتعطيل والمواجهات عنوان العمل السياسي في واشنطن خلال السنوات المقبلة على الأقل.