حرية الصحافة في الجزائر.. تراجعٌ أكثر

حرية الصحافة في الجزائر.. تراجعٌ أكثر

18 نوفمبر 2014

مواطن جزائري يقرأ صحيفة في شارع في العاصمة (27نوفمبر/2007/أ.ف.ب)

+ الخط -

تخلى الصحافيون الجزائريون عن حالة الصمت التي سادت، في أشهر طويلة، بشأن ما باتت تعرف لدى الرأي العام بقضية حبس الصحفي عبد السميع عبد الحي. صحوة متأخرة فرضتها ظروف الرجل الصحية، أو ربما خوفهم من لقاء المصير نفسه، إذا ما تعرض أحدهم لقضية مشابهة، يكون طرفها الآخر شخصية من المتنفذين في دواليب السلطة. اعتقل عبد الحي في الثامن عشر من أغسطس/آب 2013، بتهمة تسهيل هروب هشام عبود، صاحب صحيفة جريدتي، الناطقة بالعربية، ونسختها الفرنسية "مون جورنال"، إلى تونس. وكان ممنوعاً من السفر، بسبب نشره معلومات عن صحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أثناء وجوده في مستشفى فال دوغراس في فرنسا العام الماضي. زُج بعبد الحي في السجن خمسة عشر شهراً، على الرغم من أن القانون ينص على أن الحبس المؤقت إجراء استثنائي، ومدته تترواح بين عشرين يوما وأربعة أشهر على أقصى تقدير، في جرائم تفرض اللجوء إلى هذا الإجراء الاستثنائي.

تضامن وغياب مبررات الاحتجاز
تنادى الصحفيون الجزائريون، أخيراً، إلى حملة تضامن واسعة مع عبد الحي، عبر مواقع الاتصال الاجتماعي، ووجهوا عريضة لوزير العدل، تعتبر استمرار سجنه من دون محاكمة عملاً غير مبرر. وتمكينه من محاكمة عادلة تنصفه، وتنهي مأساته، وتعيده إلى أحضان أسرته الصغيرة والكبيرة. لم يطلب الموقعون على العريضة، إذن، غير العدل والإنصاف. يقول مروان الوناس، وهو أحد الموقعين، مخاطبا عبد السميع عبد الحي: (...آسفون، لأننا لا نملك غير أصواتنا وأقلامنا وآهاتنا وزفراتنا. أيها الأحرار، ويا من تبقى من أحرار مهنة الإعلام، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، يجب أن نساعد هذا الرجل، لكي يحصل على حقه في المحاكمة). تتشدق السلطات، عبر أبواقها الإعلامية، العمومية والخاصة، باحترام القانون، فأين نحن من هذا كله، أم أن عبد الحي ليس إلا مجرد كبش فداء في معركة أو "هوشة " أكبر منه، أم أن الإمعان في تشديد العقوبة بدون تهم موجهة، وسيلة تُستعمل، في الجزائر، لترهيب الصحافيين لإسكات أصواتهم، بعدم الخوض البتة، في شأن صحة الرئيس المقعد منذ سنتين، والذي لا يؤدي واجباته إلا بالوكالة، ومن بيته، وبعيداً عن مكاتب الرئاسة في قصر المرادية.   

الغريب أن صاحب الشأن، هشام عبود، كان قد نشر صورة عن جواز سفره مختومة من شرطة الحدود الجزائرية، ما يعني أنه غادر البلاد بصفة قانونية، وأنه إذا كان لا بد من محاسبة أحد، فالأكيد أنه ليس الصحافي الذي لم يقم سوى بتأجيرغرفة فندق لمدير صحيفته السابق في مدينة تبسة، القريبة من الحدود التونسية.

لم تقدم السلطات القضائية مبررات لاستمرار حبس المتهم خمسة عشر شهراً، على ذمة التحقيق. دفع ذلك رئيس الهيئة الاستشارية لترقية وتطوير حقوق الإنسان الحكومية، فاروق قسنطينيي، إلى القول إنه مهما تكن التهم الموجهة إلى الصحافي، لا يوجد أي مبرر لعدم محاكمته طوال هذه المدة، أما النائب عن حزب العمال، صورية شعبان، فلقد طرحت هذه القضية أمام البرلمان، وطالبت بمحاكمة عادلة له، فيما يعتزم نواب آخرون مساءلة وزير العدل بشأن هذه القضية.

الصحافي فريسة
تحيلنا قضية عبد السميع عبد الحي إلى ما هو أكبر منها، فهي تمثل الجزء الظاهر من جبل الجليد المخفي عن الأنظار، هي حالة الصحافة والصحافيين في الجزائر، فلقد أكد تقرير حول واقع الحريات الإعلامية وبيئة العمل المحيطة بالصحفيين الجزائريين، أعدته مبادرة "من أجل كرامة الصحفي الجزائري"، في مايو/ أيار الماضي، أنه، في غياب هيئات الرقابة التي ترصد مختلف التجاوزات، وقع عشرات الصحفيين فريسة بين أيدي الناشرين، وبعض المسيرين الذين يتعمدون التجاوز في علاقات العمل، والمساس بالحقوق المهنية والاجتماعية. وتتعلق حالات التعسف بعدم التصريح في الضمان الاجتماعي، والخصم غير القانوني من الأجور، وتأخيرها ورفض تسديدها، أحياناً، والحرمان من العطل، وبحسب التقرير، بات الصحافيون الجزائريون عرضة للفقر المبرمج، لأنهم يشتغلون بمعدل أجورٍ لا يتعدى ثلاثين ألف دينار جزائري (300 دولار) في الشهر. ولفت التقرير إلى أن الصحافيين يعيشون ضغوطاً كبيرة، نتيجة المتابعات القضائية، والاعتداء عليهم جسدياً في أثناء تأدية عملهم، ما أثر، حسب المبادرة، على نوعية الإنتاج الإعلامي، وتراجع تأثير الصحافة في صناعة القرار واتخاذ المواقف.

وعلى الرغم من ارتفاع منسوب حرية الصحافة، بعد إقرار التعددية الحزبية في نهاية الثمانينيات، وإقدام الصحافيين المهنيين على إنشاء جرائد جديدة، بعد فترة طويلة، لم تكن فيها البلاد تتوفر إلا على أربع صحف وقناة تلفزيونية وإذاعية واحدة، وعلى الرغم من التجربة الفتية التي دخلت معتركها الصحافة الخاصة في التسعينيات، والتي شهدت نجاحات عديدة وعثرات، أيضاً، فإن السياسة التي انتهجتها السلطات في تسيير قطاع الصحافة، في العشرية الأخيرة، جعلها تتراجع، في أدائها، من عدة نواحٍ، من أهمها وأخطرها الاحترافية التي أصبحت على المحك، بعد أن عمدت الدولة إلى تعويم القطاع بالترخيص لعدد هائل من الجرائد، تجاوز 140 صحيفة، أضحى ملاكها من أصحاب "الشعبة الجديدة"، وأصبحت الصحافة بذلك مجال تنافس حاد بين ذوي النعمة الحديثة من أصحاب المال، المستفيدين من تحالف الريع بالسلطة، واستغلال هذا النفوذ في تحقيق مآرب ذاتية ومصلحية، تحولت معه المنابر الإعلامية إلى مجال  لتصفية الحسابات بين العصب والأشخاص، وما حدث في حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة من "انفلات إعلامي"، إن صح التعبير، يُعد تمظهراً جلياً للصراع بين أجنحة متعددة في الحكم. في الوقت نفسه، أشهرت السلطات سيف الإعلانات في وجه الصحافة الاحترافية، إذ راحت توزع الإعلانات العمومية، بواسطة الوكالة العامة للإشهار، على الموالين لها وإقصاء من "تورع" من الجرائد الأخرى على انتقاد السلطة، وتشديد الخناق عليه، بمنع الإشهار عنه، ما أدى إلى توقف صحف عدة عن الصدور، كما تدخل وزير الإعلام، شخصياً، لدى المعلنين في القطاع الخاص، ليوجههم بتقديم إِشهارهم (إعلاناتهم) لمن ترضى عنه دوائر الدولة الخفية، ويسير في فلكها.

حيلة التراخيص المؤقتة

وللإمعان في تشديد الرقابة على الصحافة والتحكم فيها، عمدت السلطة (سلطة الإعلام في الجزائر لا تعني وزارة الإعلام) إلى حيلة ذكية، بمنح تراخيص مؤقتة، قابلة للتجديد كل عام، لإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة، على أن يكون مقرها الرئيسي في دولة أجنبية، كالأردن أو بريطانيا أو فرنسا، ومقرها الفرعي في الجزائر. حيث يمكن سحب الترخيص، في أية لحظة، كما حدث مع قناة "الأطلس" في عز الانتخابات الرئاسية في إبريل/ نيسان الماضي.

الصحافيون الجزائريون الذين لم يعودوا يملكون غير "أصواتهم وأقلامهم وآهاتهم وزفراتهم" سيتذكرون دائماً أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم ينزل، ولو مرة واحدة، طوال وجوده على رأس الدولة ضيفاً على أي جريدة وطنية، أو قناة تلفزيونية، بما فيها الصحف والقنوات العامة، ولم يعط لقاء لأي وسيلة إعلامية جزائرية طوال سنوات حكمه، ربما هو تقليد في أعلى هرم السلطة في الجزائر، فالرؤساء السابقون للجزائر، أيضاً، كانوا يتحاشون الحديث للصحافة الجزائرية، بما في ذلك أيام الحزب الواحد، وكانوا يستعملون هذه الصحافة، لتلميع منجزاتهم، أو تمرير رسائلهم إلى عموم الشعب الجزائري، عبر برقيات أو رسائل أو بيانات ليس إلا .. أو من خلال كتبة ممن تعود من الصحفيين على قراءة ما يدور في خُلد الرئيس، أو أُنزل عليه علم بما يريد أن يقول الرئيس لشعبه، لينقله هو على لسان سيادته، أو من خلال خطب معدة سلفاً، أو كلمات، هنا وهناك، متناثرة عبر زيارات ميدانية، يقوم بها الرئيس والمسؤولون الكبار إلى "المشاريع الواعدة" التي تبنيها الحكومة لشعبها، يجتهد الصحفيون في لم شتاتها وترقيع ما رتق منها.

لم يشذ الرئيس بوتفليقة عن القاعدة التي أرساها من سبقوه إلى سدة الحكم في الجزائر، فهم إن أرادوا الحديث عن منجزاتهم، أو تلميع أنفسهم، أو تمرير رسالة إلى الداخل أو الخارج، كانوا يلجأون إلى الصحافة الأجنبية، وللصحافة الفرنسية نصيب الأسد في ذلك طبعاً، فإليها تُمنح اللقاءات الحصرية، ولها الظفر بالحوارات الدسمة.

ففي الثالث من يوليو/ تموز 2012، على سبيل المثال، لا الحصر، وبمناسبة الاحتفال بمرور 50 عاماً عن الاستقلال، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية، في ملحق إشهاري ملفاً ضخما عن الجزائر في 16 صفحة، يتضمن أهم إنجازات بوتفليقة، وضم حواراً مطولاً مع الرئيس ومع سبعة من وزرائه. كما أطلقت السلطة، في الفترة نفسها، أكبر عملية تسويقية لإنجازات الجزائر (من 1962 إلى 2012) بمختلف اللغات في كبريات الصحف والمؤسسات الإعلامية العالمية، الأمر الذي فتح شهية الصحافيين الجزائريين في التعليق على نظرة التعالي التي تمارسها أعلى سلطة في البلاد تجاههم وتجاه مطبوعاتهم، وهو ما اعتبره بعضهم إهانة وازدراء للصحافة الجزائرية.

دلالات

خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.