حرية الرأي واستباحة المقدسات

حرية الرأي واستباحة المقدسات

19 يناير 2015
+ الخط -
وسط الجدل الذي صاحب حادثة "شارلي إيبدو" وتطوراتها، تم القفز سريعاً على الواقعة الأصلية وتجاهل أسبابها. واختزلت المسألة في المقابلة بين النقد والقتل، فاحتشد زعماء العالم في باريس، لنصرة الرأي والقلم على السلاح والرصاص. بينما الحدث لم يكن بهذه السطحية، فالموقف الرافض استخدام السلاح، رداً على النقد وحرية التعبير، ليس محل خلاف حتى بين عموم المسلمين. المشكلة الحقيقية في مدى جواز المساس بالثوابت والمقدسات (الأديان وغيرها)، بسخرية وابتذال أو بأسلوب هادئ غير جارح. ومن ثم فالسؤال الذي يتهرب منه الأوروبيون والأميركيون، ويسكت عنه ساسة العرب والمسلمين: هل حرية التعبير مطلقة ولا نهائية، أم أن لها منتهى، وبالتالي ضوابط وآليات تضمن عدم تجاوز خط النهاية؟ قد يدفع بعضهم بأن القيم الإنسانية والحقوق الأساسية واحدة لا تختلف من بلد إلى آخر، وهذا صحيح نظرياً. أما عند التطبيق، لحرية التعبير حدود، حتى في أعتى الديمقراطيات. قد تختلف الخطوط الحمراء أو طبيعة "المقدس" بين الشعوب أو الثقافات. لكن، دائماً هناك ما لا يجوز نقده أو الطعن فيه، جَداً أو هزلاً. فرنسا التي اعتبرت رسوم "شارلي إيبدو" الساخرة حرية تعبير غير مسموح فيها إنكار المحرقة اليهودية. وصدر تشريع يجرّم ذلك، لولا أن المحكمة العليا هناك أبطلته. لكن ظلت المحرقة محصنة وخطاً أحمر سياسياً وإعلامياً، لا يجرؤ سياسي أو إعلامي أو أي شخصية عامة على تجاوزه، لأن الثمن مستقبله وحياته العملية.
في الولايات المتحدة، "السامية" مقدسة ومحمية، بقانون مخصص لهذا الغرض. وكم كثيرة هي حالات طرد أسماء شهيرة من وظائفها، أو انتهاء مسيرة شخصيات عامة بسبب انتقاد إسرائيل التي ينظر لها عنواناً للسامية (ويتم إغفال أن معظم العرب ساميون). أعلن، أول من أمس السبت، جيم كلانسي، وهو أحد أقدم وأشهر مذيعي "سي إن إن"، نهاية علاقته المهنية التي استمرت مع القناة 34 عاماً. بعد اختلاف وتراشق على "تويتر" مع مغردين يهود حول تقييم رسوم "شارلي إيبدو". ولا حاجة لتبيان مدى الحساسية المفرطة في ألمانيا، وعقدة الذنب التي تحكم علاقة الألمان باليهود، ومن ثم بإسرائيل. وإذا كانت إسرائيل أو اليهودية المُقدس الأعظم الذي لا يُمس لدى الأوروبيين والأميركيين، فإن المقدسات المصونة لدى شعوب أخرى تتفاوت، من الطقوس والرموز التعبدية للهندوس والسيخ في الهند، إلى قيادات الحزب الشيوعي في الصين، ثم العادات والتقاليد القبلية في إفريقيا. في كل هذه الحالات، قد يفقد المرء حياته ثمناً لانتقاد أو رأي أبداه ضد هذا الخط الأحمر أو ذاك. وهو ما ينطبق بدقة، وربما بصورة أكثر فظاظة، على دول عربية وإسلامية كثيرة. حيث "حرية التعبير" بانتقاد الزعيم المُلهَم أو الاعتراض على سياسة الدولة خطيئة كبرى، تتجاوز أي كبيرة. وكثيراً ما تودي تلك الخطيئة بحياة صاحبها، أو في أفضل الأحوال، يُتهم بالخيانة، فتذهب حرية "التعبير" بالحق في "البقاء".
لكل شعب أو ثقافة أو دولة مقدساتها التي يجب احترامها، وعدم المساس بها، وليس من حق أي شعب أو نسق ثقافي فرض أو تعميم ثقافته وقيمه، وبالتالي حدوده في المسموح والممنوع على الشعوب والثقافات الأخرى. لكن، لا تكاد دولة تخلو من خليط ثقافات أو ديانات وأصول عرقية أو طائفية متنوعة. وكما يجب على أصحاب تلك الاختلافات الاندماج في مجتمعات السكان الأصليين، والوقوف عند خطوطها الحمراء. على تلك المجتمعات بدورها احترام خصوصيات الأقليات وتجنب انتهاك ثوابت الآخرين ومقدساتهم. القاعدة التي يفترض التزام الجميع بها، الاحترام المتبادل والمقنن لمضمون وطبيعة وأشكال المقدسات والثوابت المختلفة تماماً كالمشتركة. وإلا فلتقبل تلك المجتمعات المعاملة بالمثل، وترفع القوانين والقيود الحامية كل ما هو مقدس لديها، أياً كان، فالحرية ليست طريقاً في اتجاه واحد.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.