حروب جنوب السودان... البدايات ولا نهاية

حروب جنوب السودان... البدايات ولا نهاية

29 يوليو 2016

عائلات هاربة من الحرب بكنيسة القديس يوسف في جوبا(12يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
منذ اندلع التمرّد في عام 1955، في حامية توريت في جنوب السودان، قبل استقلال البلاد بقليل، ذهب ضحية الحروب التي تجدد فصلٌ منها، أخيراً، بين مؤيدي الرئيس سلفا كير ونائبه الدكتور رياك مشار، نحو مليون ونصف مليون قتيل في الجنوب والشمال. وتشرّد في مختلف الأصقاع ما يقارب 2,5 مليون شخص. ومازالت هذه الثمار المرّة تتوالى شهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، وما تزال أنهار الدماء هادرةً في مسارها، حتى بعد انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم في يونيو/ حزيران 2011، إلى مدىً لا يعلمه إلا الله وحده. إذا قال قائل إن كل هذا الذي شهدناه ونشهد، لعبت فيه المصادفة المحضة والغفلة كل هذا الدور المدمر الذي أقعد دولةً فتية وليدة، فيها كل عناصر المنعة والقوة والرخاء، ربما اتهمه الناس بالجنون، لكن الحقائق وحدها لا تقول بكل أسفٍ غير هذا.
وتحاول هذه الدراسة المبسطة تناول الجوانب التاريخية لهذه الحرب الطويلة (خمسون عاماً متصلة)، واستعراض الحقائق ومآلاتها من الناحية التاريخية واستحقاقات تطور هذه الأحداث:
1. طلبت الخرطوم (المركز) من قائد الحامية الاستوائية، عشية الاستقلال 1955، أن تشترك الكتيبة التابعة للوحدة العسكرية الاستوائية المرابطة في مدينة توريت في العرض العسكري الخاص بأعياد الاستقلال في الخرطوم، مثل غيرها من الوحدات العسكرية من قوة دفاع السودان (القوات المسلحة حالياً).
2. كان من المفترض أن تذهب هذه القوة من دون تسليح، بما في ذلك الأسلحة الشخصية الخفيفة، على أن يتم تسليح أفرادها في حامية الخرطوم. وقد اتخذ هذا القرار نتيجة إشاعات عن تمرّد محتمل لقوات هذه الحامية، وأحدثت هذه الإشاعة حالةً من الشك والريبة وسط أفراد الفيلق الاستوائي، لانعدام الثقة الذي غذّته، وأذكت ناره البعثات والمدارس التبشيرية منذ إعلان (قانون المناطق المقفولة) في العشرينيات، والذي حرم الشماليين من دخول الجنوب، إلا بإذنٍ مسبق من السلطات الاستعمارية البريطانية.
3. أدّى حادث صغير فردي إلى احتكاكٍ مباشر بين قائد الحامية (الضابط صلاح عبد الماجد)، وهو شمالي، وسائق سيارته الجنوبي، أدى إلى هجوم باقي أفراد الحامية على مستودع السلاح والذخائر. وحدثت مذبحةٌ أودت كل الشماليين الموجودين هناك. وهكذا اندلع تمرد توريت الذي ما زالت تداعياته وارتداداته تتوالى، بمختلف الصور والأشكال.
4. ولأسبابٍ لا تزال خفية، بدأ علي بلدو، وهو من أبكار الإداريين السودانيين، مديرا في المديريات الجنوبية، خلال السنين الأخيرة لحكم الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، بدأ حملة اعتقالات منظمة لنواب البرلمان السوداني السابق من الإقليم الجنوبي، بعد أن حل عبود هذا البرلمان، إثر نجاح انقلابه العسكري في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958.
5. دفعت أحداث الاعتقالات غير المعروفة الأسباب الأب ساتلينو (رئيس الأساقفة في الجنوب)، وجوزيف أودوهو (سياسي جنوبي) إلى الهروب إلى دول الجوار جنوباً. وكلاهما من منطقة الاستوائية، وينتميان إلى قبيلة اللاتوكا.
6.في كمبالا التي لجأ إليها أودوهو، والأب ساتلينو، بدأ الثنائي الاستوائي حملة إعلامية مكثفة، تطالب بالفيدرالية للجنوب، متكئين على وعدٍ سابقٍ قطع به قادة برلمان الاستقلال لقادة الجنوب، بالنظر في أمر الحكم الفيدرالي للجنوب. ولحق بهما إلى كمبالا وليام دينق (من قبيلة الدينكا أكبر القبائل السودانية)، حيث كان وقتها نائباً لمفتش المركز(قضاء) في منطقة شرق الاستوائية، خوفاً من أن تحرز حركتهما (الاستوائية المنشأ والقيادة) نجاحاً، يضع الجنوب، بكامل هيئته، في يد الأقلية الاستوائية على حساب القبائل النيلية الكبرى، الدينكا والنوير والشلك، (الدينكا قبيلة جون قرنق وسلفا كير، والنوير قبيلة رياك مشار).
7. كان اللواء جوزيف لاقو (نائب الرئيس السابق، جعفر نميري الذي توصل إلى اتفاقية أديس أبابا للسلام (1972)، وأعطت السودان عقداً من الاستقرار النسبي)، في ذلك الوقت نقيباً في الجيش السوداني، يقضي إجازته السنوية في بلدته على الحدود السودانية - الأوغندية في أقصى الجنوب، وهو ينتمي إلى قبيلة الآمادي (من أصغر القبائل حتى على نطاق القبائل الاستوائية نفسها، لا يتجاوز عدد سكانها مائة ألف نسمة).
8. اتصل الأب ساتلينو وجوزيف أودوهو بالنقيب وقتها جوزيف لاقو، وطلبا منه الالتحاق بهما
في أوغندا، ليشرف على الجانب العسكري للحركة الوليدة ضد نظام الخرطوم. لم يتردّد الضابط الصغير وقتها كثيراً، خصوصا بعد أن نما إلى علمه أن الأب ساتلينو يحظى بدعم مجلس الكنائس العالمي، تمويلاً وتسليحاً. ولم تمض بضعة أشهر حتى أعلنت حركة الأنيانيا الأولى (الأنيانيا سم أفعى الكوبرا) أولى عملياتها العسكرية في غرب الاستوائية ضد القوات الحكومية، في 19 يونيو/ حزيران 1963.
9. لاحقاً، ترك أقري جادين، الاستوائي المنشأ والانتماء، الحكم الديمقراطي في الخرطوم، والتحق بالمتمردين في أوغندا، وبدعم من جوزيف لاقو، اختير رئيسا جديدا للحركة، مضيفا بعداً استوائياً ومذهبياً بسيطرة المسيحيين الكاثوليك على مقاليد الأمور في حركة أنيانيا.
10.لم يعجب ذلك الأمر وليم دينق، ابن قبيلة الدينكا النيلية، وهو الأنجليكاني المذهب، والذي رأى سيطرة أبناء المذهب الكاثوليكي على قيادة الحركة، ولإشاراتٍ ونداءاتٍ كثيرة، تلقاها من أفراد قبيلته، قرر التعاون مع حكومة الخرطوم، فعاد إلى السودان، وأسّس في الداخل (حزب الاتحاد الوطني الأفريقي، سانو)، وخاض انتخابات عام 1965، وانتخب عضواً في البرلمان (الجمعية التأسيسية)، إثر سقوط نظام الفريق عبود.
11. كان حزب سانو قد أسسه في الخارج الأب ساتلينو وأودوهو ووليام دينق. لكن أقرى جادين كان أول رئيس له في الخارج، وهو حزب تأسس على أسس (ومبادئ) حركات التحرّر الأفريقية التي ظللت الساحة في النصف الأول من الستينيات كحزب (زانو) في زيمبابوي، و(كانو) في كينيا و(تانو) في تنزانيا.
12. بعد شهر من رئاسته الجانب السياسي للحركة، فصل أودوهو نائبه أقري جادين، ودار بينهما، صيف 1966 قتال ضار، انتهز فيه الأب ساتلينو فرصة القتال بين الأصدقاء الألداء، ورأى أن الأمر على أرض الواقع يميل إلى صالح القائد العسكري الميداني، اللواء جوزيف لاقو، فانضم إليه، واتحد معه، وأهملا معا جوزيف أودوهو الذي لم يجد بداً من الهروب إلى كينيا، بعد أن فقد السند العسكري الميداني.
13.أقامت الحكومة السودانية حلفاً تكتيكياً مؤقتاً مع نظام ملتون أبوتي في أوغندا لمحاصرة
الحركة في الاستوائية، قتل على إثره الأب ساتلينو في نقطة حدودية أوغندية على يد قوات أبوتي في 1967. وقتل وليام دينق حليف الحكومة، في إقليم بحر الغزال، ردا على ذلك ولا تزال قضية موته لغزاً مستعصياً.
14.عزّز موت القادة الكبار، والصراع المرير بينهم، قبضة جوزيف لاقو على الأرض، فالتحق به غريمه أقري جادين الذي أعلن حكومةً مؤقتةً في الجنوب، باسم (حكومة جنوب السودان المؤقتة). وعند إعلان هذه الحكومة، ترك أحد قادة الدينكا في منطقة البحيرات موقعه الوزاري في الشمال، وهو غوردون مورتات، ووصل إلى كمبالا، واتحد مع أقري جادين.
15. أثار خروج مورتات الذي ينتمي إلى الدينكا ريبة جادين (الاستوائي) وشكوكه، واعتقد أن الدينكا قرّروا الاستيلاء على الحركة وتصفيته، فدخل، بعد شهرين، في نزاع سياسي وقتال مرير مع حليفه الجديد. خرج مورتات، على إثره، من حكومة جادين المؤقتة، وأعلن حكومةً أخرى سماها (حكومة النيل المؤقتة)، وعين الكولونيل (تافينق) قائداً لجناحه العسكري برتبة جنرال في مارس/ آذار 1967.
16. لم يمض وقت طويل، حتى اندلع القتال في الاستوائية بين الدينكا الذين يقودهم مورتات والاستوائيين بقيادة جادين ولاقو. وبحلول 1969، صار لاقو قائد "الأنيانيا" سيدا على الجنوب الاستوائي، مع جيوبٍ صغيرةٍ في منطقة البحيرات في إقليم بحر الغزال والجزء الجنوبي من إقليم أعالي النيل.
17. نجح لاقو في فرض سيطرته، لأسبابٍ أهمها أنه كان ينتمي إلى قبيلة صغيرة (الأمادي) لا تثير الخوف. ولأنه انتهج نهجاً قومياً في حركته، إذ لم يقرّب أبناء قبيلته، حتى لا يثير حساسية القبائل الاستوائية الأخرى، الأكبر حجماً من قبيلته، كالزاندي واللاتوكا والتبوسا والمورلي.
18. في يوليو/ تموز 1971، نجح الانقلاب المضاد الذي قاده ضباط موالون لجعفر نميري، بعد أن أطاحه زميله الرائد هاشم العطا ثلاثة أيام في انقلاب شيوعي دموي. عاد نميري إلى السلطة، وضرب الحزب الشيوعي، وأعدم قادته السياسيين والعسكريين. وبدأ نميري الذي جاء إلى السلطة على أكتاف الشيوعيين والقوميين العرب الاتجاه نحو الغرب، في ردة فعل طبيعية لغدر الشيوعيين به.
19. دفع انفراد الجنرال جوزيف لاقو بالسيطرة على مقاليد حركة التمرد في الجنوب، وظهوره قيادةً لا تواجه أي تحدٍّ ملحوظ أو محتمل، وتحول نظام نميري في توجهاته نحو الغرب، مجلس الكنائس العالمي (راعي حركة التحرّر الجنوبية) وبعض المصالح الغربية، مثل شركة لونرو ورئيسها تايني رولاند، التي دعمت التمرد سراً بالمال والمرتزقة البيض، ووكيل كل هذه المصالح في القرن الأفريقي، (الإمبراطور الإثيوبي الراحل هيلاسلاسي)، إلى التفكير في إيجاد حلفٍ بين الجنرال لاقو في الجنوب والجنرال (نميري) في الشمال.
20. بدأت اتصالات سريةً في أديس أبابا، برعاية الإمبراطور هيلاسلاسي ومجلس الكنائس العالمي، بين اللواء محمد الباقر أحمد نائب رئيس الجمهورية والجنرال لاقو وطاقمه، أسفرت عن توقيع اتفاقية أديس أبابا في 1972، عاد، على أثرها، لاقو إلى البلاد نائباً لرئيس الجمهورية جعفر نميري. وبدأ عقد حقيقي من السلام في السودان، تدفقت على أثره معونات واستثمارات غربية، وصلت إلى 10 بلايين دولار مطلع الثمانينيات.
21. أظهر لتقو في هذه الفترة (1972- 1982) مقدرةً فائقةً في عقد التحالفات والتكتيكات المرحلية، بصورةٍ جعلته يهزم زعيم الدينكا، القاضي الوقور أبيل ألير، مرتين في انتخاباتٍ حرةٍ نزيهةٍ لزعامة الجنوب، ومجلس الحكم الإقليمي في الجنوب، وهو ابن القبيلة الصغيرة الاستوائية التي لا ذكر لها، حتى بين القبائل الاستوائية.
22. لم تشب هذه الفترة شائبة تذكر غير تمرد حامية أكوبو الحدودية في 1977، وجلها من أبناء قبيلة النوير (قبيلة نائب الرئيس الحالي رياك مشار) العائدين من حركة التمرد الذين استوعبوا في الجيش الوطني، إثر اتفاقية أديس أبابا.
23. خرج أفراد هذه الحامية بسلاحهم إلي الحدود الأثيوبية، وعسكروا داخلها، ووجدوا الدعم والمؤازرة من النظام الأثيوبي الجديد، بقيادة الكولونيل منغستوهيلا مريم الذي أطاح هو الآخر في انقلاب شيوعي دموي إمبراطور أثيوبيا العجوز هيلاسلاسي، وجاءت سياساته مناقضة بالضرورة لسياسات وتوجهات النظام الذي سبقه.
24. دفع الهدوء النسبي وحركة الإعمار والتنمية التي شهدتها البلاد في النصف الثاني من السبعينيات أبناء الجنوب إلى التدفق نحو الخرطوم، بحثا عن العمل والسكن. ولما كانت العاصمة نفسها تفتقر إلى البنى التحتية والتخطيط السليم، لم تتحمل نزوح مليون من أبناء الجنوب إليها، في أقل من خمس سنوات، وتوسعت أحياء أحزمة الفقر والصفيح الذي تحيط بالعاصمة.
25. في 1981، رأى محافظ الخرطوم السابق، مهدي مصطفي الهادي، خطراً أمنياً في
النزوح والسكن العشوائي غير المنظم، وبدأ في حملاتٍ شرسةٍ ومنظمةٍ لإخلاء العاصمة من أبناء الجنوب، من دون إيجاد بديل سكني مناسب لهم. كان ضمن هؤلاء بعض العسكريين المسرحين إثر حادثة تمرد حامية أكوبو في إقليم أعالي النيل. ولما رأوا أن القوات المسلحة لم تحتمل وجودهم فيها، ولم تحتمل الدولة وجودهم في العاصمة الوطنية لبلادهم في الحياة المدنية أيضاً، قرّروا الرجوع إلى قتال الدولة، وانضموا إلى القوة التي كانت داخل الأراضي الأثيوبية. وأعلنوا تأسيس حركة الأنيانيا الثانية، بقيادة غوردون أشول عبدالله، والعقيد صمويل قايتوت قائد حادثة تمرّد أكوبو في 1977.
26. على المستوى السياسي، وبموجب اتفاقية 1972، أضحى الجنوب إقليماً واحداً، وعلى الرغم من أن السيطرة المدنية والعسكرية، في أثناء عقد الهدوء النسبي الذي أعقب الاتفاقية كانت للجنرال لاقو، إلا أن حادثة أكوبو وسيطرة الدينكا على جل الوظائف السياسية والإدارية والعسكرية في الجنوب، دفعته إلى أن يقترح على نميري إعادة تقسيم الجنوب إلي أقاليمه الثلاثة القديمة (الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال)، لأن بقية القبائل، حتى النيلية منها (الشلك والنوير) بدأت تشكو من تسلط "الدينكا" واستئثارهم بالنصيب الغالب في السلطة والثروة.
27. وافق نميري على إعادة التقسيم الإداري للجنوب، بالرجوع للعمل بنظام المحافظات، أو المديريات الجغرافية القديمة، الأمر الذي دفع المقدم كاربينو كوانين بول (من دينكا بحر الغزال – منطقة قوقريال)، إعلان تمرّد الكتيبة رقم 105 في منطقة بور على قيادة الفرقة الأولى في جوبا، وشق طريقه عبر إقليم أعالي النيل إلى أثيوبيا، حيث يرابط زملاؤه، ولحقت به الكتائب 106 و107 و104، والعقيد جون قرنق الذي كان يقضي إجازته السنوية في مسقط رأسه في مدينة بور الصغيرة.
28. في معسكر التمرد في أثيوبيا، أعيد، تشكيل الحركة كلها. وولدت الحركة الشعبية لتحرير السودان في 16 مايو/ أيار 1983 برئاسة أكواد أتيم، واختير قرنق قائداً للجيش الشعبي لتحرير السودان. وبعد فترة قصيرة، اندلع القتال بين الحلفاء داخل المعسكر، فقتل أكواد أتيم (من دينكا بحر الغزال- منطقة قوقريال)، واختلف قرنق مع صمويل قايتوت وزميله عبدالله شول، مؤسسي الأنيانيا الثانية، فقررا العودة والرجوع إلى السودان، وتكونت حركة القوات الصديقة، والتي حاربت قرنق مع القوات الحكومية منذ منتصف الثمانينيات.
29. أطاحت انتفاضة شعبية في 6 إبريل/ نيسان 1985 حكم الرئيس نميري، وبدأ العهد الديمقراطي النيابي الثالث في السودان، لكن العقيد قرنق الذي حارب نميري لم يعد إلى السودان، ضمن من عادوا، وصبغ حركته بمسحةٍ ماركسيةٍ متناقضةٍ مع التوجه الليبرالي الجديد للدولة التي تلت نميري، وعمل قائد تمرد حامية بور الأول الجنرال كاربينو نائباً لقرنق حتى 1987، حيث اعتقله قرنق في أديس أبابا، بعد أحداث احتلال مدينة الكرمك في جنوب النيل الأزرق، وسجنه في منطقة الاستوائية حتى 1994.
30. كان الدكتور لام أكول أستاذاً في جامعة الخرطوم، (من قبيلة الشلك إقليم أعالي النيل) فآثر الانضمام إلى قرنق، ليجد أن زميله وصديقه أستاذ الهندسة الدكتور رياك مشار (من قبيلة النوير) قد سبقه إليها.
31. العقيد قرنق هو الذي جند مشار تاريخيا للحركة، والجنرال كاربينو هو الذي أشرف على
تدريبه العسكري. هذه الحقيقة مضافا إليها انتماء مشار إلى قبيلة النوير الأصغر حجماً من قبيلة الدينكا، كانت كافية لعدم قبول اللواء كاربينو العمل تحت قيادة تلميذه و"مستجده" السابق مشار، الأصغر منه، والأقل منه خبرةً ميدانيةً، والأقل منه عصبية قبليةً ونفوذاً، كما وضح ذلك في أحداث واو في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي.
32. شعر لام أكول وزميله رياك مشار (من قبيلتي الشلك و النوير)، قبل ذلك، وهما داخل الحركة، بالنزعة الديكتاتورية للعقيد قرنق، وبسيطرة دينكا بور على مقاليد الأمور، بعد اعتقال الجنرال كاربينو (دينكا بحر الغزال )، ومقتل مارتين ماجير الذي كان عقل الحركة السياسي في أديس أبابا بيد أعوان قرنق، فأعلنا الانفصال عن حركة قرنق، وتأسيس تنظيم الناصر (نسبة للمدينة التي عقدت فيها الاتفاقية) المناوئ لقرنق في أعالي النيل.
33. توجه اللواء كاربينو إلى عصبته في إقليم بحر الغزال، (يشكلون 70% من تعداد قبيلة الدينكا في السودان)، وتوجه العميد أروك طون إلى عصبته في منطقة بور، لينازع قرنق النفوذ في منطقة بور نفسها، حيث ينتمي قرنق إلى فرع بور من قبيلة الدينكا.
34. في 1995، اغتيل وليام نون، وتشير أصابع الاتهام إلى قرنق. بعدها بدأت مفاوضات سرية في نيروبي، توحدت على أثرها الفصائل الستة المنشقة عن قرنق بقيادة كاربينو ومشار وأروك طون ومارتن كيني ولام أكول، ووقعت اتفاقية "السلام من الداخل" مع الحكومة في 21 إبريل/ نيسان 1997. وبموجبها، جرت انتخابات ولاة الأقاليم الجنوبية العشرة، ومجلس التنسيق الأعلى للجنوب الذي ترأسه رياك مشار.
35. لم يُرض الأمر اللواء كاربينو، فنسق مع غريمه السابق وعدوه اللدود، العقيد قرنق، الهجوم على مدينة واو. ومن كل ما ذكر، يتّضح لنا أن هنالك مشكلة حقيقية في الجنوب نفسه، قبل أن تكون هنالك مشكلة بين الشمال والجنوب، إذ إنه، عندما يشتد أوار الحرب بين الجنوبيين أنفسهم، وبين القوات الحكومية التي يشكل الجنوبيون وأبناء جبال النوبة 80% منها حتى منتصف التسعينيات.
36. بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت الرئيس جعفر نميري، جرت محاولات للاقتراب من المشكلة: اتفاقية كوكادام (بين اليسار وحزب الأمة) 1985. اتفاقية الميرغني/ قرنق 1988. اتفاقية القصر بين النقابات والاتحادات والحكومة الديمقراطية المنتخبة 1989.
37. ثم جرت محاولات ضمن أطر التجمع الوطني المعارض لنظام البشير للاقتراب من المشكلة: قرارات مؤتمر لندن (فبراير/ شباط 1992). قرارات إعلان القاهرة (سبتمبر/ أيلول 1992). قرارات إعلان كمبالا (مارس/ آذار 1993). في إبريل/ نيسان العام نفسه، ندوة معهد السلام في واشنطن والدخول السافر للولايات المتحدة (واتفاق قرنق/ مشار) وتهميش دور التجمع.
38. في أوائل ديسمبر/ كانون الأول 1994، تمكّن مبارك المهدي والمرحوم عمر نورالدائم قائدا حزب الأمة، من توقيع اتفاقية شقدوم مع الحركة الشعبية، مؤكدة مبدأ تقرير المصير وسط احتجاج من بقية عناصر "التجمع".
39. في ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها، تم اتفاق ما سميت وقتها القوى الرئيسية على أساس "شقدوم" مؤسسة لقيام مؤتمر أسمرا. (القضايا المصيرية فبراير/ شباط 1995)
40. أدى هذا التراجع في الحركة الشعبية بقيادة قرنق للمطالبة بحدود جديدة للجنوب (خط العرض 13، بدلا من خط العرض 10 درجات شمالاً).
41. بعد الاتفاق الإطاري في ماشاكوس ازدادت المطالبة (ظهرت قضية المناطق الثلاث، أبيي، جنوب كردفان، النيل الأزرق- المناطق الثلاث).
42. ظلت المشكلة تكبر ككرة الثلج، وترتدي كل يوم لباساً جديداً في إقليم الجنوب سابقاً، ودولة الجنوب الوليدة حالياً. ساعدت في ذلك بدائية فكر الدولة، وافتقارها البنيات الأساسية، وهشاشة التركيب الاجتماعي، وغياب قوة الردع المؤثرة واختزال دور المجتمع في دور دولةٍ عاجزةٍ تحكمها نخبٌ مرتبكةٌ مهووسة بالسلطة والجاه في الشمال والجنوب معاً، ومرارات قبلية (دينكا/ نوير/ استوائيون) ومذهبية تاريخية (تبشير إيطالي كاثوليكي في إقليم بحر الغزال، وتبشير أنجليكاني في إقليم أعالي النيل نوير/ شلك وقاعدة كبيرة إحيائية) لن تجعل من جنوب السودان دولةً مستقرة، في المستقبل المنظور. فالجيش أغلبه من قبيلة الدينكا، والبترول في أرض النوير، وتحت حماية الكتائب والألوية من أبناء قبيلة النوير بقيادة مشار الذين يعتقدون أن النفط في أرضهم، وهم أحق به من غيرهم، ويكفي "الدينكا"، حسب رأيهم، استئثارهم بمفاصل سلطة الدولة الوليدة.
67EE2B24-6376-4DE6-AB80-43EB208AA9CA
مضوي الترابي

كاتب وباحث سوداني في الشؤون الاستراتيجية مقيم في لندن