حروب الطغاة وتصفيق العبيد

حروب الطغاة وتصفيق العبيد

21 ابريل 2019
+ الخط -
أسوأ زاوية يحشُرك فيها الطغاة الصغار أن تكون مضطرًا للدفاع عنهم في وجه الطغاة الكبار.. وهذه عين الزاوية التي يحشُرنا فيها الآن طاغية فنزويلا الصغير نيكولاس مادورو، حين يشرع مخالبه في وجه طاغية واشنطن الأكبر، دونالد ترامب؛ لأنك بالتأكيد لن تؤازر الثاني على الأول، وإلا اعتُبرت نصيرًا لرأس الإمبريالية العالمية، ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية.
مادورو رئيس "منتخب" منذ عام 2013، بعد أن أوصى به هوغو تشافيز قبل موته، غير أن الانتخاب الذي جرى كان صوريًّا، وشابه تزوير كثير، فيما جاء الانتخاب الثاني قبل أشهر كارثيًّا، بعد أن سبقه بقليل حظر أحزاب معارضة عديدة وإسكات الرأي الآخر، في مؤشر واضح على توجهه إلى الاستفراد بالسلطة، والتوشّح بثوب الاستبداد. أما النهج المعلن لإسباغ التعاطف المحلي والخارجي معه، فحجّته أنه يقارع الإمبريالية، ويسعى إلى الحدّ من نفوذها في جمهوريات الموز اللاتينية.
والحال أننا لا ننكر على مادورو صدق زعمه، بدليل أن فنزويلا كانت، منذ عهد سلفه تشافيز، هدفًا لمؤامرات البيت الأسود في واشنطن، لكونها غنية بالنفط من جهة، ولأنها ما برحت ترفض الانخراط في الفلك الأميركي. غير أن معضلة تشافيز وخلفه تمثلت في قمع كل صوت سياسي معارض، بذريعة التواطؤ مع مؤامرات "العدوّ"، على النظام المقارع لهذا العدوّ، وهي التهم التي تتجدّد اليوم، مع اشتداد الهجمة الأميركية على حكم مادورو، والتلويح بتدخل عسكري لإسقاطه، فضلًا عن مؤازرة خصمه رئيس مجلس النواب الفنزويلي خوان غوايدو، الذي نصّب نفسه رئيسًا انتقاليًّا للبلاد. غير أن تجاربنا الدّارسة مع طغاةٍ مماثلين، كبّدونا أبهظ الأثمان في حروبهم الدونكيشوتية لقاء وقوفنا معهم، تدفعنا إلى التردّد ومراجعة المواقف، بل الأهم أنها تجعلنا نقف، من دون أن ندري، ضدّ آمال شعوبهم بالحرية والديمقراطية.
حدث ذلك حين آزرنا صدام حسين، في حربٍ توسّلها واستجلبها إلى بلاده، وكان أجهلنا يعلم أنه إنما يؤازر طاغيةً سام شعبه سوء القمع والعذاب، غير أننا كنّا نخادع أنفسنا بحربه البلهاء، ووعوده الرعناء، فعلقنا في جيده هزائمنا كلها، ليردّها لنا انتصاراتٍ واعدة في "أمّ المعارك"، متغافلين عن حقيقة أن مثل هذه المعارك لا تخاض بالعبيد، بل بشعوب حرّة، تمتلك إرادتها وقرارها، فكانت النتيجة وبالًا عليه وعلينا، وعلى الأمة كلها؛ إذ ما زلنا ندفع ثمن هذه الحرب من فطريّات تعمّقت، وأقزام تعملقت، وأنظمةٍ طبّعت، وشعوبٍ تبعثرت.
لم نفعل كما فعلت إيران، ولم نقل كما قالت: "فلتكن حربًا بين الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر، ولن ننتصر لطرفٍ على طرف"، فقد كنّا ندرك جيدًا خطورة التغلغل الأميركي في المنطقة، غير أننا لم نكن ندرك أن خطر تغلغل الاستبداد والطغيان لا يقلّ خطورةً إن لم يكن أزيد، فرُحنا نسيّر وفود التضامن إلى بغداد، لإعلان الدعم والمؤازرة، بل منا من وعد بضرب المصالح الأميركية في كل مكان إن اندلع العدوان. ثم حين وقع، تبخّرت تلك الوفود، وتبدّدت كلّ الوعود، وهو ما يحدث حاليًّا مع مادورو الذي يستقبل سيلًا من وفود التضامن، ولا سيما اليسارية منها، كما يراهن بغبائه على العرب، ويطالبهم بالوقوف معه في حربه المقدّسة، ويبدو أن أطيافًا حزبيّة عربية تلقّفت هذه "الاستجارة"، بكثير من التهليل والترحيب، وأصبحت تنظر إلى حرب مادورو المقبلة أنها حرب الأمة العربية أيضًا، وأنها ستمهّد الطريق إلى تحرير فلسطين، أو ربما ستحقق الوحدة.
شخصيًّا لن تخدعني مزاعم الطغاة بعد اليوم، لأنني ببساطة لن أخون شعوبهم، وأقف بالضدّ من آمالها، ولم يعد يعنيني سقوط هؤلاء المستبدّين، لأنني مدركٌ أن الاستبداد مجلبة للغزاة، وإن اختلفت نظرياتهم واستراتيجياتهم، فالطاغية الحليف يستجلبهم للدفاع عنه، والطاغية الخصم يستجلبهم لمحاربته في معارك يعرف جيدًا أنها خاسرة حتى قبل أن تبدأ. أما الشعوب المصفقة للطاغيتين، فلا عتق لرقابها من سلاسل العبيد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.