في أعقاب تعزيز حركة "حياة السود مهمة" Black Lives Matter، بعد مقتل الأميركي جورج فلويد، في 25 مايو/ أيار الماضي، اختناقاً على يد شرطي أبيض، قامت مجموعة من القراصنة الإلكترونيين يطلقون على أنفسهم اسم "أنونيموس" Anonymous بقرصنة مواقع الشرطة الأميركية على الإنترنت، والإعلان عن هذه القرصنة على قناة الحركة الخاصة على موقع "يوتيوب" التي اعتادوا أن ينشروا عبرها تعليقاتهم وآراءهم عن الأوضاع السياسية في العالم.
لكن، بمقارنة سريعة بين محتوى رسائل الحركة قبل سنوات، وما تقدمه اليوم، لاحظ خبراء القرصنة الإلكترونية أن هناك تحولاً كبيراً في المحتوى، ما دفع البعض منهم إلى الاشتباه في أن قناة الحركة على "يوتيوب" قد قُرصنت، بل واعتبر البعض منهم أن روسيا ربما تقف وراء هذه الضربة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأميركية المقبلة.
في 27 يوليو/ تموز الماضي، نشرت حركة Anonymous على قناتها على "يوتيوب" فيديو تزيد مدته قليلاً عن الدقائق العشر، تحت عنوان "هذه فقط كانت البداية"، يحمل تحذيرات شديدة اللهجة ضد الانقياد وراء ما سموها "مؤامرة كورونا" التي نظمها "من يحكمون العالم"، مع اقتطاع عدد من اللقطات الأرشيفية لمؤسس شركة "مايكروسوفت" بيل غيتس الذي ارتبط اسمه بنظريات المؤامرة، تليها مشاهد لمدن مهجورة تشبه لقطات أفلام ما بعد نهاية العالم، وصور لرجال يرتدون بذلات سوداء خلف شاشات الكمبيوتر، فيما نشاهد الفيديو من خلال مرشح داكن من درجات اللونين البني والأخضر، مع خلفية موسيقية مأخوذة من حلقات SF المعروفة باسم X-Files، ثم صوت مشوه يحذر: "في 31 مارس 2025، سينتهي الإجراء برمته".
بمقارنة سريعة لمحتوى الفيديو الذي شاهده ما يقرب من 65 ألف شخص، والفيديوهات الأخرى للقناة التي يشترك فيها ما يزيد عن ثلاثة ملايين مشترك، يبدو التغير في العقلية التي تدير الحركة واضحاً لكثير من المتخصصين، كما لو أن مجموعة القراصنة المجهولة قد تخلت عن التزامها الاجتماعي ووقوفها ضد الظلم، وصارت تركز بشكل كامل اليوم على نشر نظريات المؤامرة.
فما الذي حدث؟ هل قررت Anonymous التغيير من خطها السياسي؟ أم هل اختُرقت مجموعة القراصنة المجهولين من قبل جهة أخرى غير معروفة؟
بدأ انتشار أقنعة جاي فوكس الساخرة في كل مكان منذ عام 2003، وهو القناع الذي اتخذته حركة Anonymous ليكون رمزاً لها على مواقع التواصل الاجتماعي وقناتهم على "يوتيوب". وبدأت الحركة في الإعلان عن مسؤوليتها عن قرصنة عدد من المواقع والصحف على الإنترنت، وزادت من الاحتفاء على قناتها بتسريبات "ويكيليكس" عبر نشر المزيد من الوثائق الحساسة المسربة.
وبعد الهجوم الدموي على هيئة تحرير مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية في 7 يناير/ كانون الثاني 2015، أعلنت Anonymous عن عمليات قرصنة استهدفت ملفات تعريف تنظيم "داعش" الإرهابي على "تويتر". إلى أن جاءت الانتخابات الأميركية عام 2016، لتكون سبباً في انقسام أعضاء المجموعة بين معسكر يساري وآخر يميني، وتبدأ الحركة في نشر فيديوهات متضاربة الاستنتاجات، ومحرضة جمهورها وأعضاءها بشكل مباشر على اتخاذ موقف تجاه كل مرشح.
هذا التطور الذي تشهده قناة الحركة على "يوتيوب" أخيراً دفع عالم الكمبيوتر البلجيكي يرون بيرت، الذي يتابع الحركة منذ ظهورها الأول قبل خمس سنوات، إلى نشر مقال تحليلي أخيراً على الموقع الإخباري البلجيكي "في آر تي"، يخلص فيه إلى استنتاج يفيد بأنه يشك في قرصنة قناة الحركة على "يوتيوب" من قبل مجهولين. وأضاف: "أصبحت حركة Anonymous معروفة اليوم على المستوى الدولي، خاصة بعد أن تناولتها وسائل الإعلام العالمية في أكثر من حدث، وباتت تعرف بأقنعتها ورموزها وشعاراتها، هذه التفاصيل جعلت من الحركة مجموعة محببة لدى كثيرين، خاصة أن جرائمها في القرصنة كانت تقف دائماً في صف المظلومين، لكن هذا الاتجاه اختلف تماماً منذ بدأت أزمة كورونا".
وتابع المتخصص في جرائم القرصنة الإلكترونية: "لم تكن هناك مشكلة كبيرة في محتوى ما تطرحه الحركة عبر قناتها على (يوتيوب)، طالما أنهم كانوا يعملون في الظل، ولكنهم بعد ذلك بدأوا في دفع المتابعين إلى اتخاذ موقف مما يحدث حولهم، أو لنقل التحريض المباشر ضد الحكومات، خاصة بعد أزمة كورونا".
كذلك يشير العالم البلجيكي في مقالته إلى ما لاحظته خبيرة الكمبيوتر الكندية غابرييلا كولمان، والمتخصصة في جرائم القرصنة الإلكترونية، إذ أعربت أخيراً عبر إحدى حلقات بودكاست MusicTechFest عن أنه "لم يعد هناك خط سياسي للأفكار التي تروج لها حركة Anonymous، كما لو أنهم لا يملكون خطة أو وجهة نظر واضحة تجاه التغيرات التي تجتاح العالم بعد أزمة كورونا، وهو ما تجلى واضحاً في الفيديوهات الأخيرة للحركة، والمليئة بالتحريض والانجرار وراء نظريات المؤامرة".
يبقى السؤال الأهم: هل تمت قرصنة قناة Anonymous على موقع "يوتيوب"؟ يجيب عالم الكمبيوتر البلجيكي يرون بيرت في تحليله: "لم تكن الحركة المجهولة في بدايتها ممثلة لأي تيار سياسي من أي نوع، إلا أن فيديوهات الحركة الأخيرة حول نظريات المؤامرة لا تبدو لي من صنع مجموعة من قراصنة الإنترنت العاديين، بل يبدو الأمر وكأن هناك جهة ما استولت على قناة الحركة على (يوتيوب)، وتعمل من خلالها على نشر رسائلها ذات الطابع السياسي والتحريضي الواضح". يختتم بيرت كلامه: "الهاكر الحقيقي لا يهتم بالاقتصاد العالمي أو الانتخابات والتحولات السياسية على هذا النحو المؤدلج، لذلك من الصعب عليّ أن أصدق أن من يقف وراء هذه الفيديوهات المحرضة سياسياً هم مجموعة من هواة القرصنة الإلكترونية. في الماضي، كانت عمليات القرصنة تُنسب إلى الشباب الذي يشعر بالملل ويبحث عن بعض الإثارة عبر الإنترنت. لكن حين تتحول هذه الدوافع الآن إلى نشر الأفكار أو الأيديولوجيات على هذا النحو، فعلينا أن نقف ونتساءل: من يقف خلف اسم الحركة اليوم"؟
قادت مجموعة Anonymous سلسلة من الاحتجاجات والقرصنة الإلكترونية ضد كنيسة السيانتولوجيا، وارتبط نشاط الحركة بعد 2008 بالنشاط الجماعي التعاوني في عدد من القضايا على المستوى الدولي، فقام الأفراد الذين يزعمون تحالفهم مع Anonymous باحتجاجات وإجراءات انتقامية دفاعا عن حقوق الطبع والنشر، وتضمنت أهدافهم اللاحقة للقرصنة الوكالات الحكومية في عدد من البلدان، من بينها: الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي وتونس وأوغندا، إلى جانب اختراقها لمواقع تابعة لـ"داعش".