تشهد المناطق المتاخمة للجبال التي تتحصّن بها المجموعات المسلّحة منذ سنوات، لكونها مكان الامداد الأساسي لها، فضاءً متنازعاً بينها وبين قوات الأمن. وهو ما دفع السلطات التونسية، في إطار حربها الشاملة التي أعلنتها بعد اعتداء وسط العاصمة، يوم الثلاثاء، إلى وضع خطة لحماية سكان المناطق الجبلية، بسبب وجودهم في الصفوف الأمامية لساحات المواجهة من جهة، ولارتفاع منسوب التهديدات الإرهابية التي باتت تستهدف المدنيين من جهة أخرى.
وقد اتخذ مسار المجموعات المسلّحة منعرجاً جديداً، بعد الاعتداءات الساحلية وفي العاصمة، ويسعى المسلّحون المتحصنون في الجبال، إلى ترويع سكان المناطق الجبلية وافتكاك مؤونتهم والسطو على قطعانهم. منطقة عين جفال، التابعة لمعتمدية جلمة من محافظة سيدي بوزيد، نموذجاً، إذ يعيش سكانها منذ فترة حالة من الخوف، والرعب، بسبب الاعتداءات المتكررة عليهم مما اضطرهم إلى إخلاء منازلهم، والنوم في إحدى المدارس. وقد شهدت المنطقة اعتداءً بعد أن هاجمت إحدى المجموعات منذ بضعة أسابيع منزلاً، وحاولت اختطاف صاحبه المسن، قبل الاعتداء عليه بالضرب، وتهديده بالقتل، إلى جانب افتكاك هاتفه الجوال، والاستيلاء على كمية من المواد الغذائية. كما اعترض ملثمون طريق تلميذة تدرس بالمدرسة الإعدادية بجلمة، وعرضوا عليها أموالاً في مقابل العمل معهم، مستفسرين منها عن عدد التلاميذ والمعلمين بالمدرسة، كما سألوا عن تفاصيل حول القرية.
في السياق، يرى الخبير الأمني، علي زرمدين، أن "المجموعات الإرهابية موجودة منذ أربعة أعوام، وكانت مختبئة، قبل أن تبدأ بالظهور إلى العلن، خصوصاً بعد التوقيفات العديدة التي قامت بها الأجهزة الأمنية والجيش".
ويضيف زرمدين، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "المجموعات الإرهابية تحاول انتهاج سياسة الترويع والتخويف، وانتقلت من مرحلة الاغتيالات السياسية، إلى محاولات تحطيم كيان مؤسسات الدولة بالإشاعات، والإرباك والتخويف"، معتبراً أن "هدفها يقضي بضرب التظاهرات، والأسواق، والحفلات، والمراكز التجارية، والأماكن التي يؤمها الناس". ويكشف أن "الإرهابيين يستغلون الثغرات، فكلما وجدوا ثغرة يوظفونها لصالحهم، لجذب الأنظار". ويشير إلى أن "زرع الخوف لا يقوم على قطع الرؤوس فقط، بل بالهجوم على المواطنين، وافتكاك مؤونتهم لبث الرعب".
اقرأ أيضاً تونس: تباين أمني - قضائي حول استراتيجية محاربة الإرهاب
أما رئيسة "المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية"، بدرة قعلول، فتعتبر أنّ "احتماء الأهالي بمدرسة، دليل على الخوف وعلى الرعب". وتقول في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن "هناك نقلة نوعية في الإرهاب الذي انتقل من استهداف الأمنيين إلى مرحلة استهداف المدنيين بغية إخافتهم، وإخراجهم من أماكنهم، ومن بيوتهم". وتُشّدد على أنه "لا يجب إخلاء المنازل، وترك المساحات للإرهابيين، لأنهم يسعون إلى المزيد من التقدم، للتحرّك بأريحية في الجبال". وتؤكد أنه "يجب تأمين المواطنين، خصوصاً سكان المناطق الجبلية من خطر الإرهابيين، وتركيز الأمن في الأماكن المتقدمة لحماية المواطنين".
وتوضح قعلول أن "الإرهابيين تعمّدوا قطع رأس الراعي الصغير، مبروك السلطاني، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، ثم اعترضوا سبيل تلميذة، وهجموا على رجل مسن. وتهدف كل هذه الأعمال لبثّ الرعب في النفوس".
وتتابع أنه "على إثر هذه الإعتداءات لا يمكن للسلطات أن تنتظر من المواطن أن يساعدها، أو أن يوفر لها المعلومة لأنه خائف، ويشعر في الوقت عينه أن حياته ليست في أمان". وتعتبر قعلول أنّ "ترك المساحات سياسة خاطئة، لأنها ستسمح بانتشار المزيد من المجموعات الإرهابية"، مناشدة الحكومة التونسية بـ"إيجاد حل سريع، و طمأنة السكان، وإعادة الثقة إليهم".
ووعياً لأهمية بقاء سفوح الجبال القريبة من المناطق التي تتحصّن بها المجموعات المسلّحة، خالية من أي دعم ممكن لها، لناحية تزويدهم بالمعلومات والمؤن، قرر المجلس الأعلى للأمن، في جلسته يوم الأربعاء، التركيز على هذه المناطق والسعي لانتشالها من الوضع الاجتماعي الصعب الذي تعيش فيه. كما اتُخذ قرار تشغيل الشباب في المناطق المتاخمة للجبال، عبر انتدابهم في المؤسسة الأمنية والعسكرية والزراعية، حتى لا يُسهل انتدابهم وإغراؤهم من طرف المسلّحين.
وقد شرعت الحكومة، وفقاً لما أعلنه رئيسها الحبيب الصيد أمام البرلمان، في تنفيذ برنامج خاص لـ25 منطقة متاخمة للجبال التي تتحصّن فيها المجموعات المسلّحة. وسبق لوزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي، أن ذكر في تصريحات صحافية، بعد مقتل الراعي، أن "أولوية الدولة في المرحلة الحالية هي حماية سكان المناطق المتاخمة للجبال، وتحسين ظروف عيشهم والاعتناء بوضعيتهم الاجتماعية والبنية التحتية بالجهات الداخلية".
وشهدت هذه المناطق زيارات متتالية لكل الأحزاب والمنظمات الوطنية من دون استثناء، بعد جريمة قطع رأس الراعي، وطالبوا جميعاً الدولة بالإسراع بتوفير الماء الصالح للشرب والإنارة بالطاقة الشمسية ومدّ الطرقات المعبّدة وإدراج جزء من هذه المساكن في برنامج السكن لفائدة العائلات المحتاجة، إلى جانب الإسراع بوضع كاميرات مراقبة وقيام الجيش والأمن بتسيير دوريات مراقبة لحمايتهم من للإرهابيين.
وفي إطار انتشار الشائعات، تحدث المكلّف بالإعلام بوزارة الداخلية، وليد الوقيني، عن الشائعات التي يتم بثها عبر حسابات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي كـ"فيسبوك"، مشيراً إلى أن "هناك أطرافا تريد خلق حالة من الذعر، والفوضى في تونس". واعتبر أن "هذه المجموعات تريد بث الفتنة بين مؤسسات الدولة والمواطن"، لافتاً إلى أنه "جميعنا يعيش اليوم حرب الكرامة". وكشف الوقيني أن "وزارة الداخلية بصدد العمل على إرساء خطة ميدانية في المناطق المتاخمة للجبال لحماية المواطنين".
اقرأ أيضاً: ضحايا "الثلاثاء الأسود" التونسي... الساعات الأخيرة لماهر الكبسي