حراك الحسيمة.. مطالب اجتماعية خلف الاتهامات الجاهزة

حراك الحسيمة.. مطالب اجتماعية خلف الاتهامات الجاهزة

11 يونيو 2017
في مدينة الحسيمة
+ الخط -
لا حلّ يلوحُ في أفق الحراك في الحسيمة، بل اتّخذت الأمور منحى عنيفًا ودراميًا، في الآونة الأخيرة، بعد انتقال الدولة من مرحلة التّفرج، إلى مرحلة القيام بمحاولة خجولة للحوار، والإيحاء بالرغبة في حلّ الأزمة سلميًا، إلى مرحلة الضّرب بيد من حديد، عبر حملة اعتقالات واسعة، وتدخّلات عنيفة في حقّ المحتجّين. الحراك الذي استمرّ وصمد منذ مقتل محسن فكري بائع السمك، منذ أواخر السّنة الماضية إلى الآن، لا يبدو أنه سينتهي قريبًا.

فلمدّة تفوق السّبعة أشهر، تأجّجت المظاهرات في مدينة الحسيمة دون كلل، بل ازداد عدد المشاركين فيها، وانضمّت فئات أخرى إليهم، خاصّة مع التّدخل العنيف لقوّات الأمن، واعتقال قادة الاحتجاجات بداية "ناصر الزفزافي، محمد جلول.."، ثم كثير من الناشطين، من بينهم الفنانة الشابة سيليا الزياني، التي تعتبر المرأة الوحيدة التي اعتقلت في السّنوات الأخيرة بعد مشاركتها في مظاهرات.

كأنّ الدولة مصرّة على التّصعيد. لكنّها مقاربة فاشلة لحد الآن، فمقابل القادة المعتقلين، ينبت آخرون يواصلون الحثّ على الصمود في الشّارع، والمطالب المرفوعة أضيف لها "إطلاق سراح المعتقلين"، بل أصبح المطلب الرّئيسي. فأثار هذا الإصرار على الاستمرار في التّظاهر رغم التّهديدات والعنف المعنوي والمادي ضدّ المتظاهرين، نقاشات متعدّدة التفسيرات، حاولت مقاربة احتجاجات الحسيمة، وأسباب الاندلاع والنّجاح.


هي أزمة ثقة
يقول عبد الرحيم العلام أستاذ العلوم السياسية متحدثًا مع"جيل"، إنّ "على السّلطة أن تعي جيدًا أن هناك أزمة ثقة حقيقية بين المواطنين والمسؤولين، فالوعود الشّفوية لم تعد تستطيع إيقاف الاحتجاجات، ولا في مقدورها أن تجسّر الفجوة بين المتظاهرين والسّلطة. وإذا أرادت الدولة أن تحدّ من استفحال الأزمة، فما عليها إلا أن توقف حملة التشهير بالمحتجّين، واتّهامهم بمحاولة (زرع الفتنة) أو (الانفصال)، أو (تحويل الدولة إلى سورية أخرى). وفي المقابل تعمل على إطلاق سراح المعتقلين، وتسمح للناس بالاحتجاج السلمي في الوقت الذي يرغبون، والمدّة التي يقدرون عليها."

بعدها، يضيف العلام، "يجتمع المجلس الوزاري ويخرج بقرارات اقتصادية واجتماعية وسياسية، تباشر في إثرها الجرّافات والعمال الأشغال، ويتمّ توظيف وتشغيل آلاف المعطلين وتوفير التّمويل والدعم لمن يريدون فتح مقاولات، وتبسيط المساطر، وشنّ حملة لا هوادة فيها ضد المفسدين، والمرتشين في مختلف بقاع المغرب، وتخفيض الضرائب والأسعار، والزيادة في الأجور، والحد من التفاوت الطبقي..."

"آنذاك، سيقتنع الناس ولن يبقى في الشّارع محتج إلّا من يهوى الاحتجاج وذلك حقه أيضًا، لأن العبرة بالأفعال لا بالأقوال والوعود المخدّرة. فيجب أن يعرف صنّاع القرار في المغرب أن الأزمة هي أزمة ثقة، وأنّ أسوأ شيء يمكن أن يحدث في أي دولة هو أن يفقد النّاس الثقة في مؤسّساتها، وأحزابها، ومجتمعها المدني. وهو ما يحدث اليوم: الناس لم تعد تثق في الوعود، بل أصبحت تخشى من الانتقام، ولم تعد ترغب في المسكّنات، بل تريد السّكن والشغل والعلاج والمدارس، والجامعات".


درس سورية
يعلّق العلام على تخوّف البعض من مصير سورية، وغيرها من الدول التي تعرف حربًا أهلية بدأت باحتجاجات، بأنّ " الاحتجاجات لا تُدمّر الأوطان، بل الطريقة التي تتعامل بها السّلطات مع الاحتجاجات. أمّا الانتفاضات فوظيفتها تنبيه الحاكم إلى أخطاء الحكام، وتوعية المواطن بضرورة النضال من أجل رفع الظلم، وتكريس قيم الحرية والعدالة الاجتماعية".

ويضيف "لا نريد وضعًا يشبه أوضاع سورية والعراق واليمن، لكن حتمًا لا نريد ظروفًا مشابهة للظروف التي جعلت السّوريين واللّيبيين واليمنيين، يخرجون عن طوعهم، ويفضّلون الارتماء نحو المجهول – الذي قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا - بدل الارتكان إلى الواقع المعلوم، الذي يُميتهم أكثر من مرّة في اليوم الواحد رغم أنهم أحياء".


المؤسّسات المالية العالمية تعمّق الأزمة
الالتزام بتوصيات النيو-ليبرالية سوف يجرّ إلى ما هو أسوأ من حراك الريف، يعلّق أستاذ علم الاجتماع، والباحث في مجال الاحتجاجات، جمال فزة، ويتّفق مع الآراء التي ذهبت إلى أن حراك الريف يجد تفسيره في ضعف الوساطة بين الدّولة والمجتمع، أو غيابها التّام.

لكنّه يضيف "هذا الرأي في نظري صحيح في منطوقه، خاطئ في مضمونه؛ فالمغاربة توقّفوا منذ زمن بعيد عن الثقة في الأحزاب، واليوم هم يائسون تمامًا، لأنهم فقدوا الثّقة حتى في المجتمع المدني، الذي كان من المفروض أن يلعب دور أداة الدفاع الذّاتي، التي يعبّر بها المجتمع عن معقوليته التاريخية، وهويته في مواجهة عقلانية السّوق وسلطان المال". غير أنّ الجديد في رأيه، هو استفحال منظومة الفساد إلى المجتمع المدني، آخر آليات الإنقاذ.


وأد المعارضة الحقيقية
يضيف فزة: "المشكلة الكبرى التي تعاني منها عقلية الحكم في المغرب، هي أنها تعتقد بأنّ نجاح الدولة يكمن في إسكات صوت المعارضة الحقيقية، وتدجينها وتجفيف كل منابعها، وأساسها المجتمع المدني، غير أن ما لا تفهمه أو تتجاهله، هو أنّها بفعلها ذلك إنّما تلغي المجتمع ذاته. فالمجتمع الذي لا يتهيكل حول صراع وتمثيليات حقيقية، لهذا الصّراع مجتمع مفتوح على العنف؛ لأن الصّراع يعني وجود بدائل كامنة، والمظلوم في إطار الصّراع يشعر دائمًا بأنه لم يُسحق بعد، وأنه بخوضه للصراع يساهم في بناء المستقبل".

ويختم "هذا يعني أن النيوليبرالية تدمّر المجتمع وتقضي عليه نهائيًا. والدّولة في المغرب، عندما تنصاع إلى تعليمات المؤسّسات المالية العالمية، وتتجاهل المطالب العميقة للشعب، والتي تتمحور حول العدالة الاجتماعية، إنّما تسير وبتعنّت، في طريق مجهولة. أما استعانتها بالدّين من أجل تحوير مسار الحراك ففيه مغامرة كبيرة جدًا، لا سيما وقد جاءت هذه الاستعانة بعد انقلاب على مشروعية الدّين الشعبي على علاته، وهذا من شأنه أن يقود إلى ما لا تحمد عقباه".


الأحزاب في الـ "آوت"
بعد سكوت طويل الأمد خرجت الأحزاب المكوّنة للأغلبية الحكومية ببلاغ اعتُبر فضيحة سياسية، لأنه مهّد لاستعمال العنف ضد المظاهرات. فرغم إقراره بأن حقّ تنظيم التجمعات يبقى مكفولًا لجميع الأفراد والجماعات وفق المقتضيات القانونية المؤطرة لهذا الشأن، إلا أنّه استدرك بعدها منبّهاً إلى أن القانون لا يسمح بتحوّل التجمعات إلى أعمال تمسّ بأمن المواطنين، أو تؤدي إلى تخريب أو إحراق الممتلكات العامة والخاصة. رغم أنّ أيًا منها لم يحدث في الحسيمة، لكنه كان بيانًا استباقيًا لما ستقوم به قوّات الأمن من تدخلات عنيفة واعتقالات بالجملة.

ورغم انخراط بعض أعضاء بعض الأحزاب"سواء من الأغلبية أو المعارضة" في مظاهرات مساندة لحراك الحسيمة، ومندّدة بالاعتقالات، إلّا أنها تبقى عملًا فرديًا لا تتبنّاه الأحزاب التي عادت إلى صمت أخرس، إلى حد قريب، حين خرج حزب التجمع الوطني للأحرار"من الأغلبية الحكومية"، بأوّل بلاغ حزبي عن الحراك، ليدينه بلغة سياسية.

من جهته، خرج حزب الاستقلال المعارض أخيرًا عن صمته، وأعرب عن تبنّي الحزب لموقف فرعه بالريف. وأورد بلاغ للحزب تضامناً مطلقاً وغير مشروط مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمحتجين، مطالبًا بإطلاق سراح جميع المعتقلين بسبب الحراك، وتوقيف المحاكمات. وهو بهذا يخرج قليلًا عن سرب الأحزاب المحلّق في الفراغ، بعيدًا عمّا يحدث في الحسيمة.

المساهمون