حرائق الغابات التونسية: الدلو الذي أشعل الغضب

حرائق الغابات التونسية: الدلو الذي أشعل الغضب

07 اغسطس 2017
(جبال الحمراء على الحدود التونسية الجزائرية)
+ الخط -

مائتا كلم فقط غرب العاصمة تونس، كفيلة بأن تخرج إقليمًا بأكمله من حسابات الدولة في التنمية والتشغيل، بل وحتى في الإغاثة التي ظلت محتشمة ومحيّرة. ففي الوقت الذي تطارد فيه نيران الحرائق أهالي القرى المتاخمة للغابات، وتعجز وحدات الإطفاء عن السيطرة على الكارثة وهياكل الدولة عن توفير المؤن للأهالي يضطر نشطاء مدنيون إلى تنظيم نقاط تبرّع لإغاثة النازحين وتوفير الدعم لهم.

في اللحظة التي تُهرول فيها العجوز وحيدة حاملة على كتفها بعضًا من متاع البيت، ويهرب الحفيد بالتلفاز الوحيد تاركين خلفهما منزلًا وذكريات عمر كامل تلتهمها النيران، يهرع السياسي في الحزب الحاكم إلى التجارة في المأساة بدلو ماء لرشه على الرماد الذي خلّفه الحريق، مستعرضًا ذلك أمام مصوره الشخصي الذي التقط له كل صور تنقّله في رحلته من تونس إلى مكان الحريق. هل يريد أن يقنعنا أن حمل دلو ماء في وجه نار تأتي على مئات الهكتارات فعل ذو جدوى؟ وأنه لا يمارس نفاق السياسة؟


الجنة تحوّلت إلى جحيم
لجأت مساء يوم الاثنين الماضي، إحدى الشابات الناشطات في إغاثة المتضرّرين من الحرائق، إلى تقنية البث المباشر على فيسبوك لتخرج باكية أمام متابعيها وهي تتحدّث عن الكارثة، محمّلة كل المسؤولية لتأخّر تدخّل قوات الإطفاء وتواضع إمكاناتهم. صوت الفتاة الذي قطّعته شهقات النحيب والبكاء على وضع المنطقة التي تعدّ آخر ما تبقى من غابات في تونس التي يراها كثيرون "جنّة خضراء"، جاء لائمًا وناقمًا عن ردة فعل الحكومة وتصرّفها حيال الكارثة وتحوّل بفعل صدقيته وعفويته إلى صوت الجهة بأكملها ولسان حال 200 ألف ساكن بغابات جندوبة.

الخطاب الذي توجّهت به الفتاة إلى نشطاء فيسبوك لم يخلُ من عبارات الشواء والنار، ووصف عذابات الأهالي الذين عُذّبوا بشم رائحة حيواناتهم تحترق وفقدانهم الجبل والغابة كآخر ملجأ ومورد رزق.

الفيديو بتراجيديته الموغلة في الحزن، لاقى انتشارًا كبيرًا على الموقع الأكثر متابعة في تونس، وشوهد قرابة 300 ألف مرّة، وما زال يواصل انتشاره تحت عناوين الأسى على حال إقليم بأكمله من جهة، ويجمع اللعنات وعبارات الكره للحكومة المستقيلة من مهامها تجاه الأهالي، رغم الوعود الانتخابية الدسمة، من جهة أخرى.

الغابات التي كانت مزارًا لعشاق التخييم والرحلات الجبلية في فصلي الشتاء والربيع، رغم وعورة الطرقات والتضاريس تحوّلت بفعل ما يزيد على 14 حريقًا يوميًا في محافظة جندوبة لوحدها حسب تصريح المدير العام للغابات حبيب عبيد، وتحت درجة حرارة تتجاوز الـ 45 درجة مئوية، إلى جحيم حقيقي بالنسبة للأهالي والوافدين.

فالنيران أتت إلى حدود اليوم الثاني من هذا الشهر على 439 هكتارًا من الغابات و300 هكتار من المحاصيل الزراعية كما التهمت 26 منزلًا. هذه الأرقام المفزعة ستجرّ المنطقة إلى تعميق مشاكلها المتفاقمة، حينما نأخذ بالاعتبار نتائج هذه الحرائق على المراعي والنباتات والانجراف والتغيّرات المناخية.


ناشطون في قلب النار 
قصور الدولة وصل إلى مستوى مخيف، حيث نشرت صفحة "طبرقة عروس الشمال" على موقع فيسبوك ليلة الخميس، معلومات تفيد باحتراق خمسة منازل وهروب أهاليها دون أن يتمّ إجلائهم أو إسعافهم من قبل مصالح الدولة ساعات بعد الكارثة.

خمسة أيّام على اندلاع الحرائق، لم يتعدَّ دور الدولة في عمليات الإغاثة سوى فتح المبيتات المدرسية أمام الأهالي لتقضية الليل، فيما لاذ آخرون باللجوء إلى أقاربهم وبقي آخرون حذو منازلهم المحترقة حسب تصريحات المدير الجهوي للحماية بجندوبة، في غياب تام عن معاينة الأضرار المادية التي لحقت بهم وتقديم حلول جذرية لهذه الكارثة.

هذا الغياب المسجّل، دفع مجموعات شبابية من العاصمة خصوصًا، إلى التدخّل عبر تنظيم نقطة لجمع التبرّعات من تونس وخارجها والتي شملت الأفرشة، المُؤن، الماء والنقود وإرسالها إلى مناطق الحرائق. إضافة إلى سعيهم الآن إلى تزويدهم بمواد البناء لاستصلاح المنازل المتضرّرة.

الدولة اكتفت بمراقبة الأوضاع دون أية قرارات تذكر، فالوفد الوزاري الذي تحوّل إلى المنطقة يوم الثلاثاء، تركها تتخبّط في مأساتها دون أية خطط مستقبلية رافعين المهمّة إلى رئيس الحكومة الذي لم يعلن حدّ اللحظة عن أي شيء غير مواصلة إطفاء الحرائق بالأساليب التقليدية والأدوات التي صارت بدائية مقارنة بتلك المستعملة في الدول المتقدّمة ما تسبب في إعادة اشتعال مناطق اعتُقد أنها أخمدت، ولكن قصور وحدات الإطفاء عن تطويق الحرائق جميعها تسبّب في تشتيت الجهود وتقليل نجاعتها. فالسؤال المطروح هنا لماذا لا تحاول الدولة الاستعانة بجارتها الجزائر في عمليات الإطفاء، خصوصًا أن الحرائق على حدود البلدين وصارت تمثل تهديدًا للشقيقة أيضا؟

لا مغالاة في القول إن الدولة مستقيلة من مهامها تجاه المنطقة، رغم أنها تحتوي على أخصب غطاء نباتي وغابي في البلاد، وتمثّل أيضًا خزّان البلاد المائي بما تشتمل عليه من سدود، باعتبارها المنطقة الأوفر للتساقطات، لكن سكان المنطقة يعيشون تحت خط العطش، ويعانون مشاكل سوء البنية التحتية التي تسببت في تفقير المنطقة من المشاريع والمرافق الأساسية للعيش الكريم.


لغز النار
تزامن الحرائق، اندلاعها في الليل في مناطق مختلفة وبطريقة منظمة واجتياحها لمناطق مختلفة إضافة إلى معطيات أخرى، أثار الشكوك حول الأسباب الكامنة خلف "المحرقة"، حيث صرح رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عشية الثلاثاء، بأن هناك شبهات لضلوع أطراف في اندلاع الحرائق، قائلًا إنها ربّما تكون حرائق متعمّدة ونشبت بفعل فاعل.

تأكيد كلمات رئيس الحكومة جاء سريعًا صبيحة اليوم الموالي، حيث تمكن حراس إدارة الغابات أثناء عملية إخماد نيران إحدى الحرائق بغابات جندوبة من القبض على أحد الأشخاص بصدد إشعال النيران في الغابة. هذا إضافة إلى تأكيد القائد الميداني للجنة الجهوية لمجابهة الكوارث لجريدة "الصباح" التونسية أن الحرائق مفتعلة نظرًا لنشوب 15 حريقًا بصفة متزامنة، مستبعدًا فرضية أن تكون العملية عفوية.

هذه المعطيات الأولية دفعت باللجنة الجهوية لمجابهة الكوارث إلى فتح تحقيق في الحرائق، وهو الذي نادى به ناشطون كثيرون وطالبوا بضرورة وضع تشريعات قانونية مشدّدة على كل من تدينهم التحقيقات.

ترجح التحليلات أن دوافع إضرام النار في الغابات تعود إلى رغبة الحطابين في استغلال الفحم الخشبي والأراضي المحترقة في زراعة محاصيل شخصية، واستغلالها في نشاطات أخرى لتحقيق أرباح اقتصادية مهمّة.

لم يكف الدولة أن تُغيب منطقة الشمال الغربي عن سياساتها التنموية ومشاريعها الاقتصادية وتفقر إقليمًا بأكمله من المرافق والمنشآت الأساسية وتؤبّد وجوده في منطقة الظلّ، بل فشلت حتى في المحافظة على ثروات المنطقة الغابية وملامحها الطبيعية تاركة النار تلتهم آخر ما تبقى من "تونس الخضراء".

المساهمون