حذاء جونسون في رأس الصفحة

حذاء جونسون في رأس الصفحة

10 سبتمبر 2019
+ الخط -
ربما لم تكن رئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة تيريزا ماي، تتوقع أن يتحول الزخم الصحافي الذي رافق سنوات عملها، وتركز على ثقافتها وأدائها المتميز في عالم الموضة والأزياء، إلى هاجسٍ يستحكم بعقل وريثها في المنصب الحكومي الأهم والأعلى في بريطانيا، بوريس جونسون! فعلى هامش معركة البريطانيين الراهنة (البريكست)، أي عملية الخروج بأقل الأضرار من الاتحاد الأوروبي، باتفاق مع دوله أو بغير اتفاق، كانت الصحافة البريطانية تقوم بتغطية أخبار تيريزا ماي السياسية، وفي الآن نفسه، تركز على تفاصيل ما تلبسه المرأة الستينية، حيث باتت خياراتها الذوقية جزءاً من عملية التحليل السياسي التي كانت ترافق خطواتها في المجاهل الوعرة، وأفضت إلى استقالتها بعدما عجزت عن إبرام اتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وهكذا قرأنا سابقاً أن بدلتها الحمراء الغاضبة، في يوم استقالتها، تشبه بدلة أخرى تحمل اللون نفسه تقريباً لبستها حينما هُزمت في انتخابات 2017، وربما تكون هي البدلة التي ارتدتها حينما خاضت جولة مفاوضات مع قادة دول الاتحاد الأوروبي، لم تفضِ إلى أي تقدّم في الملف العالق.
التركيز على الأزياء هنا لم يجعل تفاصيلها مؤشراً على كوامن الفعل السياسي، أو واحدٍ من نوابض الخيارات القاسية في عوالم التفاوض، بل ظل كما هو في العادة أداءً صحافياً طريفاً يمكننا تقبله والاستمتاع به، ونحن نقلب أوراق الصحيفة من صفحات السياسة والتحليلات إلى صفحات المنوّعات! وهو في سياقه الطبيعي من عملية إرضاء الجمهور الذي يريد أن يستمتع بقراءة الصحيفة، ولا يريد أن تكون الصفحات كلها متجهمة، ولكنه يريد بالتأكيد أن يحقّق انتصارات ذاتية، مثل الاستمتاع حد النشوة برؤية ذاته في صورة السياسي الذي يلبس ما يلبسه الجمهور، أو ينتعل الحذاء ذاته، أو يدخن النوع نفسه من السجائر، ويضع العطر ذاته.
هنا، ومن دون الاستغراق كثيراً في التأويلات، يمكن اعتبار الصفحات المنوعة، شقيقة للصفحات السياسية في الصحيفة، وكذلك تصبح ساعات المنوعات والترفيه شقيقة لنشرات الأخبار والبرامج السياسية. ولعل الجميع يلاحظ كيف نتجت برامج التوك شو السياسية ذات الطابع "الشعبوي" من زواج كلا النوعين الصحافيين، فصارت البرامج سياسية وترفيهية في آن، يجد الجمهور متعته فيها من نتف سياسي أو محلل سياسي شوارب خصمه، وصولاً إلى 
تشابك الأيدي وقذف الخصم بكوب الماء، وصولاً إلى التخابط بالكراسي وغير ذلك. هذه البرامج وتلك الصفحات تُرضي جمهورها، فتقدّم له ما يريده، وإن خيّل له أنه يرى ويقرأ الجديد، بينما تحشر العقول المدبّرة سلطة السياسة والإعلام الشعبوي الطعام التافه في فمه، وتدفع هذا الطعام إلى حلقه، من دون أن يشعر، وهذا ما فعله بوريس جونسون، عندما التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيراً، إذ رمى لحمائم الصحافة وصقورها فريسة مختلفة، تلقفوها جميعاً، ومضوا يعلكون فيها مدة طويلة، لكنه لم يمهلهم وقتا حتى دفع إليهم بمزيد من الأفعال والتصريحات الرنانة، وكذلك الدأب على الخسارات أمام مجلس العموم.
يتذكرُ دارسو علوم التسويق والإعلان عبارة "حذاء خروتشوف"، بوصفها تعبيراً عن قيام المعلن بحركة غريبة تلفت الانتباه إلى مُنتجه. ولاستيعاب التفاصيل، يتم شرح الحكاية التي يعرفها السياسيون عن رفع الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف، حذاءه في وجه قادة العالم في الأمم المتحدة في العام 1960، منتقداً تدخل مندوب الفيليبين بسياسات الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية. وكانت رسالة خروتشوف تحمل بعداً شعبوياً مقترناً وملتصقاً بالبعد السياسي، فوصلت إلى جماهير السوفييت، وكذلك إلى شيوعيي العالم، واعتبرت كناية عن قوة الشيوعية واليسار في مواجه الإمبريالية العالمية!
وبالقياس، لن يعجز المحللون النفسيون لأداء السياسيين عن رؤية بوريس جونسون آخر المنضمين إلى القادة الشعبويين في العالم، وهو يسجل واقعة شعبوية جديدة كل يوم، ويمارس ألعابه أمام الكاميرات، فيضع حذاءه، لثوان قليلة، في وجه الكاميرات، وقبلها في وجه ماكرون، من دون إيلاء مقام المضيف (الرئيس الفرنسي) أي أهمية، والالتفات بدلاً من ذلك صوب 
إشباع نقمة البريطانيين المتنامية ضد الأوروبيين الآخرين الذين يتسبّبون، بسياساتهم ومطالباتهم، كما يعتقد البسطاء، بالفقر والغلاء في السوق البريطانية!
لم يكن أداء جونسون الأول بين السياسيين في العالم ولن يكون الأخير، ففي مرحلة تنامي الشعبوية الرثّة، صار الخروج عن اللياقة عنوان الأداء الحركي، بالتوازي مع هبوط الأداء السياسي أدنى فأدنى، صوب الرداءة والتفاهة، وتجاوز القيم، والنفور من لوائح الحقوق المدنية، والإصرار على فرض الوقائع السياسية بقوة الهيمنة والبطش، وإن أدى ذلك إلى تعطيل العملية السياسية في بريطانيا، عبر قرار لم يتخذ مثله منذ عشرات السنين. وكذلك حتى وإن تشارك مجلسا العموم واللوردات في دحره في الجولات التصويتية المتتالية لمنع إدارته من الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، فجونسون يستمتع في العمق بما يجري، فهذه الطريقة الأمثل للفت الانتباه، وهي أفضل السبل لجعل العتبات الأخلاقية في الجدل السياسي الداخلي تنهار، حتى صار التشاتم بينه وبين زعيم المعارضة، جيمي كوربن، عرضاً مميزاً للصحافة والإعلام. كل شيء هنا سيبدو في عهد جونسون عادياً تماماً، ولعل المشكلة الأشد فداحةً في ما نراه راهناً، معرفتنا الأكيدة بعدم وجود قاع ينتهي فيه هذا السقوط.