حديقة الإنسان

حديقة الإنسان

20 ابريل 2020
+ الخط -
مضت سنوات عدة منذ زيارتي الأخيرة لحديقة حيوان، لكن مشاهداتي التي في داخلها بقيت عالقة في ذهن هذا الصغير وإن كبر يوماً. كانت زياراتي لها قليلة جداً، إلا أنها تعد مصدراً للكثير من الأسئلة المؤرقة لوالديّ وعلى وجه الخصوص والدتي، والتي يجب أن تكون جاهزة على الدوام للإجابة على تساؤلاتي بأي وقت.

وبطبيعة الحال، كانت تجد ما تسكن به نفسي وتغلق به باباً واسعاً من سيل أسئلتي وتفسيراتي للأمور، والتي لطالما أعجبت بها رغم ما تحمله من مغالطات منطقية أو انطباعات سريعة، معبراً عما يخلج في داخلي بكلمات لم تكن ككلمات طفل صغير يحرص على متعة المشاهدة لا على متعة صياغة الجمل والكلمات، لربما في حينها أيقنت أنه من المعيب ألا أكتب كل ما أجد فيه ما يستحق الكتابة والتدوين.

دعوا كل تلك الكلمات التي في الأعلى جانباً، واتركوا لي أنفسكم لآخذكم في جولة في تلك الحديقة بأثر رجعي، واعتبروها حالة من استرجاع لذكرياتي بصوت مرتفع.

لعل أول ما أدهشني كم الحيوانات التي في الأقفاص، وكيف أنها مقسمة تقسيماً معيناً يعبر عن شيء ما، لربما اللون أو الجنس أو شيء آخر، لا أدري، إلى أن علمت في حينها أنها قسمت على حسب نوعها وفصيلتها التي تنتمي إليها.

وهنا تبادر أول سؤال في ذهني: أية حكمة تلك التي جعلتها على هذا الشكل؟ والتي عليه نشأت وتكاثرت لتبقى على وجه كوكبنا الكبير، معتمدة على منهجيات تسمح لها بالعيش والبقاء، ولدت بها من قبل قوة خفية، فيا عظيم صنع الخالق ويا بديع صنعته "المخلوق".

وبدأت أجول بداخلها وأرى وأستطلع وألاحظ وأتعجب، منها ما كان يعيش في مجتمعات صغيرة مع بعضها البعض، ومنها ما كان يبقى وحيدا يدور في قفصه الحديد، ومنها ما يبقى واقفا لساعات دون حراك. لا أعلم ماذا ينتظر؟ وإلى متى سيبقى على انتظاره هكذا؟ ألم يمل بعد؟


وأخرى لا تكل، في حركة دائمة أفقدتني حتى قدرتي على فهم ما تفعله، وتسببت بتشتيت كل أسئلتي، والتي لربما كانت هذه الحيوانات المحببة إلى والدتي، لأنها تلهيني عنها قليلاً وتحد من عدد أسئلتي تاركة لي الفرصة للتحديق بها، ومحاولة تأويل وتفسير ما يدور في ذلك القفص وحدي، حتى وإن لم أجد إجابة تشفي غليلي وفضولي كنوع من أنواع التربية، التي طالما أعجبت بها من قبل والدتي. اسمحوا لي أن أقول ولو سريعاً إنها كانت أماً مثالية أكثر من اللازم بعض الشيء.

المهم حتى لا أطيل، لنستكمل مشاهد التعجب وأسئلة الاستفهام في رحلتي الطفولية هذه، لبثنا هناك وقتاً جيداً سمح لي بمشاهدات أكثر تنوعاً وأكثر دهشة لطفل في ذلك العمر، أكثر ما استرعى كامل انتباهي في تلك اللحظات التي بدأت تنطفئ بها شعلة حماسي وترجع لي قواي الاستقرائية وقرون الاستلحاظ لدي، كان وقت أن بدأت حركة غريبة وجلبة كبيرة في كافة أقفاص الحيوانات، لوهلة لم أعرف السبب، حتى جاء نداء على مكبرات الصوت لجميع العاملين في الحديقة أنه حان وقت إطعامها، لم ألتفت في لحظتها للكم الهائل من الطعام الذي وزع على الأقفاص، أو للجهد والوقت الكبيرين اللذين بذلا لإطعامها أو المال المصروف على هذا المشهد المهيب.

جل تركيزي كان في كيفية تلقي هذه الصنيعة "الحيوانات" غير البشرية لغذائها، بتصرفها بالبداية مع مزودها بهذه الحصص الغذائية وحتى مغادرته، وأيضاً ماهية فعلها الجماعي بعد انصرافه، وأسس قواعد اللعبة في ما بينها، وكيفية توزيع ما خصص لها من غذاء على جميع الحيوانات في القفص ليشبع الجميع ويبقى على قيد الحياة، أو حصوله على شعور الشبع، وهذا في حد ذاته في محبسه إنجاز يضمن له البقاء أكثر على هذا الكوكب الأزرق.

انظر معي ماذا شاهدت عيناي الصغيرتان، هي صورة أخرى من سلسلة صور ما شاهدت، فمنها الذي بدأ منذ اللحظات الأولى يصارع بضراوة على حصته من الطعام والغذاء دون هوادة، مخرجا كل قواه الكامنة في صراع البقاء والحياة، من دون النظر لأقرانه، ولا يرف له جفن لأنه بقوته ربما يأخذ حصة أكبر من غيره، أو سيحرم آخر من كل فرصه لسد احتياجه الغذائي..

هو عالم الحيوان يا سادة لا حرج، أما على النقيض الآخر فهناك في قفص آخر من كان في قمة الهدوء والرقي- أستميحكم عذراً لاضطراري إلى استخدام هذه الكلمة هنا بالذات رغم أنها لا تستخدم إلا لبني الإنسان- اقترب الكبير ومن أظنه صاحب المسؤولية في القفص بتوزيع الحصص بالتساوي، وأطعم جميع الحيوانات بداخله بظل رضا تام من دون أي نزاعات تذكر. وفي قفص آخر أيضاً ثمة شيء جديد وصورة أخرى ومجتمع آخر، حيث الحيوانات في القفص ساعدت في تقسيم الحصص الغذائية بالتساوي القائم على الكفاية، وكلف أحدها بشكل ما ليوزع عليها نصيبها من تلك الحصص.

كانت النهاية لي في هذه الحديقة، إذ جاء نداء والدي وأذان الرحيل من هنا إلى البيت، وتلبيتي للنداء ختام رحلتي المليئة بالمشاهد والصور والراسخة في ذهني حتى كبرت وصرت إلى ما صرت إليه الآن.

ما أريد أن أصل إليه، هو أننا نحن كغيرنا من الخلق على وجه هذه البسيطة، بل كأي دابة تدب على هذه الأرض وتعيش عليها، إلا أن سر اختلافنا عن باقي ما بقي من الدواب عقل أكرمنا رب به، ليجعله نعمة لنا لا علينا، أوجدنا من خلاله قيما معنوية تعددت مصادرها من أديان إلهية سماوية، وقوانين وضعية لمنظومات قيمية وأخلاقية، ومنهجيات تواصل وحوار لتصبح حياتنا أسهل وأجمل.

فمنذ غزو كورونا لكوكبنا الأزرق، والعالم بكل دوله يواجه هذا الوباء "الطاعون" بكل قوة، ضمن ما تراه من إجراءات وسياسات تنقذ ما يمكن إنقاذه من سكانها وقاطنيها، آملين بالانتصار على هذا البلاء الذي أصابنا جميعا دون استثناء، لكن وضع تحت كلمة، لكن ألف خط وخط، إن ما يقال عن المشهد العالمي الساقط بحكم الواقع من المعيب أن يحدث.

وإن الحدود التي رسمت بين الدول أعادت لي صورة الأقفاص التي في حديقة الحيوان لوهلة، فكل نظامنا العالمي السياسي منه والاقتصادي ارتد علينا أيما ارتداد، فكل ما سعينا له من استنزاف للطاقات والثروات في سبيل السيطرة والسلطة والقوة على حساب قيمة التقاسم والسلم والوجود، عوض حسن التدبير والإدارة لموارده وقمع الفساد من جذوره للبقاء عليه.

إلا أننا أبينا في هذه المحنة والتي بدأت في ووهان الصينية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إخراج أسوأ ما فينا من شرور ووحشية وبشاعة على السطح مرة أخرى، ووضع كل إرثنا البشري وما وصلنا إليه من حداثة وحضارة و"رقي" التي استخدمتها في الأعلى للحيوانات على المحك، ووضعنا باختبار صعب للإنسانية قطباء بكل مكوناتها من دول وقوى عظمى واتحادات وجوامع ومنظمات أنشأتها البشرية لهكذا محن، فهل تنجح آدميتنا أمام الحيوان الذي بداخلنا في خضم هذه الأزمة، ونمد أيدينا لبعض بعيداً عن أنانيتنا وأمراضنا من عنصرية وجنون لسطوة المال والنفوذ والنجاة معا؟

وأخيرا أسأل: من في تلك الحديقة الآن؟